على مستوى القضية الأكثر سخونة في الوقت الحالي وهي الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والفوضى الأمنية المتصاعدة التي نشرتها في المنطقة، عكست التحركات التركية الأخيرة الدور الكبير المحتمل الذي يُمكن أن تلعبه أنقرة لإنهاء الحرب واستعادة الاستقرار الإقليمي. يُمكن وضع زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى تركيا وحديثه عن أهمية دور أنقرة لإنهاء الحرب، وكذلك اجتماع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان برئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في إطار الهامش الذي تُحاول أنقرة إيجاده للعب دور صانع السلام في المنطقة. وفي الواقع، فإن العجز الكبير الذي تواجه إسرائيل في تحقيق أهداف حربها في غزة والخسائر العسكرية الكبيرة المتزايدة لها، فضلاً عن المخاطر المحدقة بانهيار الأمن الإقليمي، كلّهما عوامل تزيد من أهمية الدبلوماسية التركية للمنطقة لأنه كلّما اقتربنا من النقطة التي تعمل على تعظيم فرص إنهاء الحرب، كلّما تصاعدت أهمية الدول التي بمقدورها لعب دور صانع السلام وعلى رأسها تركيا.
على صعيد آخر، برزت مصادقة البرلمان التركي على عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي الناتو كعامل آخر يُمكن أن يؤدي إلى إعادة تشكيل العلاقات التركية الغربية من جديد. في هذه المرحلة، لا بُد من التأكيد على الحكمة المُستخلصة من أزمة عضوية السويد وهي أن الأزمة لن تنتهي إلآّ عندما تنتهي بالفعل. لا تزال الخطوة الأخيرة لإنهاء هذه الأزمة تتمثل في مصادقة الرئيس رجب طيب أردوغان على مشروع العضوية ليُصبح قانوناً سارياً. يُمكن أن تكون الخطوة الأخيرة تحصيلاً حاصلاً بطبيعة الحال. لكنّ المصادقة النهائية على عضوية السويد لا تعني أن القضايا الأخرى التي ارتبطت بهذه المسألة انتهت تماماً. لا تزال تركيا تنتظر مُضي الولايات المتحدة في إتمام عملية بيع مقاتلات إف ستة عشر. وإذا أوفدت إدارة الرئيس جو بايدن بوعودها لأنقرة بهذا الخصوص، فإن حقبة جديدة في العلاقات التركية الأمريكية ستبدأ. ولا يُمكن تجاهل تزامن تحرك ملف عضوية السويد قبيل الزيارة المرتقبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا في فبراير شباط المقبل. إن الرسالة التي تُريدها أنقرة إرسالها إلى كل من الغرب وموسكو واضحة تماماً وهي أن موازنتها في العلاقات بين الطرفين لن تكون على حساب التزامها بدورها النشط في حلف الناتو وعلى حساب هويتها الجيوسياسية كجزء من المنظومة الغربية حتى في الوقت الذي يعمل فيه أردوغان على تحقيق الاستقلالية في السياسة الخارجية عن الغرب في بعض القضايا.
في غضون ذلك، تكتسب زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى أنقرة أهمية كبيرة. ليس فقط لأنها الأولى له منذ توليه منصبه قبل عامين ونصف، بل لأنها ستختبر مدى قدرة أنقرة وطهران على صياغة سياسة مشتركة إزاء الاضطرابات الأمنية الواسعة التي تعصف بالشرق الأوسط وعلى مواصلة عملية إدارة المنافسة الإقليمية بين البلدين وتطويرها إلى مستوى التعاون في المجالات الحيوية على رأسها الأمن. كانت الزيارة مُقررة في نهاية نوفمبر تشرين الثاني الماضي، لكنها تأجلت مرتين على التوالي. وحقيقة أنها جاءت في لحظة اضطراب إقليمي كبير وتنامي التحديات الأمنية التي تواجه البلدين في جوارهما العراقي والسوري، فضلاً عن التحولات الكبيرة على طرأت على الجغرافيا السياسية في جنوب القوقاز مؤخراً بعد انهيار الإدارة الانفصالية لأرمن قره باغ، والتي أعادت تحريك ديناميكيات المنافسة الإقليمية بين أنقرة وطهران، تُعطي الزيارة أبعاداً تتجاوز ديناميكيات العلاقات الثنائية وتؤثر على اضطرابات الجغرافيا السياسية الإقليمية المحيطة بهما.
تعتبر العلاقات التركية الإيرانية نموذجاً فريداً في العلاقات الإقليمية. فبالرغم من وقوف البلدين على طرفي نقيض لسنوات طويلة في معظم القضايا الإقليمية من سوريا إلى العراق مروراً بجنوب القوقاز، إلآّ أنّهما استطاعا إدارة خلافاتهما على مبدأ التعاون التنافسي. وتنظر كل من أنقرة وطهران إلى علاقاتهما من منظور يتجاوز منافستهما الإقليمية. علاوة على العوامل التاريخية والجغرافيا التي تفرض على البلدين الحفاظ على علاقات ودية والحد من تأثير المنافسة الإقليمية عليها، فإن لديهما حدود طويلة تبلغ 560 كيلومتراً. كما أنه في معظم القضايا الإقليمية التي يتنافس فيها البلدين، تتداخل بعض الأهداف المشتركة مع بعضهما البعض. في سوريا والعراق على سبيل المثال، تتداخل هذه المصالح في تقويض الدور الأمريكي في هذين البلدين وجزئياً في مكافحة التنظيمات الإرهابية الانفصالية. وفي جنوب القوقاز، يجتمع البلدين على تقويض التأثير الغربي في جنوب القوقاز. وعلى صعيد السياسات الشرق أوسطية، فإن أنقرة وطهران تتبنيان رؤية مشتركة لجهة الحاجة إلى التعاون بين القوى الفاعلة في المنطقة لتحقيق الاستقرار الإقليمي. وفي ظل هذه البيئة الأمنية المضطربة التي أفرزتها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وفراغ السلطة الذي يُحدثه تراجع الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، والمنافسة الجيوسياسية العالمية التي تُلقي بظلالها على المنطقة، فإن مبدأ التعاون الإقليمي الجماعي يترسخ في المقاربتين التركية والإيرانية.
في ظل البيئة الأمنية الإقليمية والعالمية المضطربة للغاية، والتي تنعكس بشكل مباشر على تركيا ومصالحها الخارجية، فإن السياسة الخارجية التركية تتحرك وفق منظورين مُهمين، أولهما إظهار حاجة الدول الفاعلة في المنطقة إلى التعاون الجماعي فيما بينها لإدارة شؤونها ومصالحها بشكل ينعكس إيجاباً على مصالح المنطقة وأمنها. وثانيهما يتعلق بحاجة أنقرة إلى مواصلة الموازنة الدقيقة في علاقاتها بين روسيا والغرب.