صبر أنقرة بدأ ينفذ، هذا ما نفهمه من خطاب الرئيس أردوغان الأخير وتصريحات المسؤولين الاتراك مؤخرا، وتزامن هذه التصريحات ليست بمحض بصدفة، بل تعبر عن مخططات تركية جديدة بالنسبة إلى سوريا لا سيما بعد استشهاد عدد من الجنود الأتراك في شمال العراق ومحاولة إنشاء ممر إرهابي بين شمال سوريا وشمال العراق بهدف محاصرة تركيا من حدودها الجنوبية وتطبيق الأجندة الأمريكية ضد تركيا عبر قوات قسد وبي كي كي بحجة محاربة داعش.
هذه الحجة الواهية التي شرب عليها الدهر، فقبل أيام قررت الولايات المتحدة إرسال 1500 جندي أمريكي إلى الشرق الأوسط من أجل محاربة داعش، ومن جانب آخر قررت الولايات المتحدة دعم قوات قسد بمبلغ 150 مليون دولار لسنة 2024، وهذا السلوك الأمريكي يتضارب مع مصالح تركيا، الدولة الحليفة للولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي "الناتو" مما يدع تركيا أمام عدة خيارات صعبة.
اتسمت السياسة التركية الجديدة بخفض التصعيد وتطبيق سياسية صفر مشاكل ولكن لتطبيق هذه السياسة يتطلب من جميع الأطراف أن ينتهجوا هذه السياسة، وليس فقط الجانب التركي، وإلا لن نستطيع التقدم بالمسار السياسي. وهذا ما تحاول أنقرة منذ سنوات إقناعه للأطراف المتنازعة في سوريا، ونجحت الجهود التركية خلال السنوات الماضية بعقد بعض الاتفاقات كاتفاق وقف إطلاق النار في إدلب بين الرئيس التركي أردوغان والرئيس الروسي بوتين ولكن للأسف هذا النوع من الاتفاقات يبدأ بداية جيدة ثم يبقى حبرا على ورق، ويتم اختراقه من الميليشيات التابعة للنظام السوري.
تركيا لا تريد التصعيد في سوريا لأن لديها ما تخسره أما النظام السوري فليس هناك ما يخسره لأنه بالحضيض، لذلك يبقى الخيار الأول لتركيا هو المسار السياسي الذي حاولت من خلاله في السنة الماضية، التطبيع مع النظام السوري لتطبيق القرار الأممي 2254 المتمثل بإنشاء حكومة سورية جديدة تضم شخصيات من المعارضة ومن النظام السوري وإعداد دستور جديد يضمن الأمن والأمان لجميع الأطراف، ومن ثم الذهاب إلى انتخابات حرة نزيهة لانتخاب الرئيس السوري الجديد يكون رئيسا لكل الشعب السوري بدون استثناء.
ولكن يبدو أن إيران لم يعجبها هذا السيناريو، وعملت على عرقلته بشكل غير مباشر، عبر حجج واهية كضرورة انسحاب الجيش التركي من الشمال السوري قبل أي مفاوضات، وهذا ما رفضته أنقرة لأن انسحاب الجيش التركي يعني سيطرة الميليشيات الإرهابية على الشمال السوري مما يؤدي إلى تدفق المزيد من اللاجئين إلى تركيا ما يشكل خطرا على الأمن القومي التركي. وفي تقديري أنقرة ستحاول محاولة سياسية أخيرة هذا العام، وستحاول إيضاح الصورة للرئيس بوتين خلال زيارته المرتقبة لتركيا وستحاول أيضا إقناع إيران خلال زيارة الرئيس الإيراني لتركيا التي تأجلت مرتين، من جانب آخر تركيا تنتظر انتهاء الانتخابات الأمريكية أيضا فمن الممكن أن تستطيع تركيا إقناع الرئيس الأمريكي الجديد بالتخلي عن المنظمات الانفصالية في سوريا والمضي قدما نحو تطبيق القرار الأممي 2254، بعد كل هذه الأمور ستتبلور صورة واضحة للمشهد في سوريا وستقرر أنقرة ما أن تبقى على المسار السياسي أم تصعد المسار العسكري.
نلاحظ تصاعد نبرة التصريحات من قبل المسؤولين الأتراك مؤخرا، وهذا إن دل يدل على نفاذ صبر تركيا وهذا ما قاله الرئيس التركي مؤخرا بشكل واضح، فالدول الغربية تتجاهل مخاوف وحساسية أنقرة تجاه المنظمات الانفصالية في شمال سوريا والعراق، وهذا ما دعا تركيا للقيام بعمليات نوعية في تلك المناطق، من خلال تحييد بعض القادة الكبار واستهدفت مرافق البنية التحتية الحيوية ونقاطا للتفتيش وقواعد عسكرية، أي نستطيع أن نقول إنَّ تركيا بدأت بالعمليات العسكرية وهي مستمرة بهذه العمليات النوعية وتكثيف هذه العمليات مرتبط بالتقدم بالمسار السياسي مع الأطراف المعنية في الملف السوري. وفي بيان لوزارة الدفاع التركية لعام 2023 صرح البيان بتحييد أكثر من ألفين عنصر في شمال سوريا والعراق، ومن جانب آخر وافق البرلمان التركي على تمديد مهمة القوات التركية في سوريا لعامين إضافيين، وهذا دليل على إصرار أنقرة بالدفاع عن مصالحها ومصالح الشعب السوري، فهي تؤمن بوحدة الأراضي السورية على عكس بعض القوى التي تسعى جاهدة لتمزيق سوريا حفاظا على مصالحها في المنطقة.
وتسعى أنقرة بتوسيع رقعتها في المناطق الشمالية في سوريا لتوسيع مناطق المعارضة السورية لذلك شهدنا بعض الأخبار حول مخطط اسمه نموذج حلب، يهدف لضم مناطق ريف حلب وما حولها إلى مناطق المعارضة السورية، وإعمار هذه المناطق سكنيا واقتصاديا واجتماعيا، وأمنيا لتكون مناطق آمنة للناس هناك يتوفر بها كل الخدمات والبنى التحتية الأزمة لإحياء المناطق في الشمال السوري وتحويل مناطق محافظة حلب إلى مراكز تجارية كبيرة في الشرق الأوسط.
خيار العملية العسكرية موجود على الطاولة دائما كخيار أخير لا ترجحه أنقرة، إذ من الممكن أن ينطوي على خسائر مادية وبشرية، وهذا ما لا تريده الحكومة التركية الجديدة التي تعمل على القرن التركي الذي يتميز بالازدهار الاقتصادي بعد معاناة الاقتصادي التركي من ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع سعر الدولار، ولكن إذا استنفذت أنقرة كل الحلول السياسة فستبدأ بخيار العملية العسكرية البرية التي سيكون هدفها الدخول بعمق 30 كم إضافية من مواقع تواجد القوات التركية في الشمال السوري.
وقد شهدنا في السنوات الماضية الكثير من العمليات التركية البرية في شمال سوريا والعراق أيضا، كعملية درع الربيع التي أسفرت عن تحييد أكثر من 3 آلاف عنصرًا من قوات النظام السوري، فضلا عن 3 طائرات و8 مروحيات وطائرة مسيرة مسلحة و93 دبابة و36 عربة مدرعة و67 مدفعا و10 أنظمة للدفاع الجوي وعملية "غصن الزيتون" لاستعادة السيطرة على مدن من قرى سيطر عليها تنظيم واي بي جي/بي كي كي الإرهابي، وتم بسط السيطرة على منطقة عفرين في شمال غرب سوريا. وعملية "درع الفرات" التي تمكنت من خلالها تركيا طرد مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية، وكذلك مسلحي تنظيم واي بي جي من المنطقة الحدودية، وحاليا هذا الخيار أصبح ممكنا أكثر بعد التصريحات الرسمية الأخيرة من الولايات المتحدة التي مفادها أن أمريكا لم تعد مهتمة بالبقاء في سوريا.
هناك فرق كبير بين عدم الرغبة وعدم القدرة، تركيا قادرة على بدء العملية العسكرية البرية، لكنها لا ترغب بالاستعجال بهذا الخيار، والعملية العسكرية البرية هي وسيلة وليست هدفاً بحد ذاتها، فالهدف هو تنظيف الشريط الحدودي مع سوريا والعراق ووقف السلوك الاستفزازي للولايات المتحدة ضد تركيا من ناحية أخرى.
سياسة خفض التصعيد وسياسة صفر مشاكل لا تتعارض مع حماية الأمن القومي التركي، فإن لم تكافح أنقرة اليوم هذه التنظيمات والميلشيات على الحدود التركية، فستضطر مستقبلا لمكافحتها داخل تركيا، لذلك قرار مكافحة الإرهاب قرار حازم لا رجعة فيه، وهدف أنقرة هدف مشروع، يتمثل بتنظيف جميع الميلشيات والتنظيمات على الحدود التركية، وإقامة علاقات صداقة وأخوة مع دول المنطقة من دولة لدولة فقط بعيدا عن جميع التنظيمات التي تعيث فسادا بالعلاقات التاريخية التركية مع دول المنطقة.