فجأة هبّت موجة التفاؤل باحتمال انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وتحرك سفراء اللجنة الخماسية بعد جمود طويل. وهنا بدأت هذه الأسئلة حول هذا الحراك المستجد، ومن أين جاءت هذه المناخات الإيجابية، فيما الواقع الميداني جنوب لبنان يوحي بالتصعيد والأفق المسدود.
وقبل أيام، غادر الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين بيروت بانطباع الخيبة، بسبب الفشل في التوصل إلى تفاهم مع حزب الله على صيغة مناسبة للاتفاق مع إسرائيل على ترتيبات في منطقة الحدود. وفوجئ الرجل بالجانب اللبناني يطرح مسألة يستعصي حلها، وهي انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. وهكذا، فهِمَ هوكشتاين أن حزب الله لم يقتنع بعد بنضوج عوامل الاتفاق. وهذا الفشل يثير هواجس إدارة بايدن، لأن الوضع على الحدود بين لبنان وإسرائيل يزداد سخونة.
وهذه الخيبة تزامنت مع حديث عن مهلة حددتها حكومة الحرب الإسرائيلية لبدء تصعيد واسع في الجنوب. والنقاش أن إسرائيل أبلغت الولايات المتحدة بانتهاء المهلة بعد أيام قليلة، في آخر كانون الثاني الحالي. فإذا لم يوافق حزب الله على وقف الحرب، سينفذ الجيش الإسرائيلي ضربات في الجنوب ضد حزب الله وحماس.
هذا الاحتمال المثير للقلق دفع الإدارة الأميركية إلى استنفار اللجنة الخماسية فوراً وفي شكل طارئ، لملء الفراغ بمبادرات سياسية تكون ضمانة لتجنب أي مغامرة عسكرية لإسرائيل. فمن شأن هذه المبادرات أن تدفع الطرفين، إسرائيل حزب الله إلى التريث وتبادل الأفكار بدلاً من الاستسلام للغة النار والصواريخ.
وفيما ترفع اسرائيل من مستوى ضغوطها، بقيت الاتصالات ناشطة بين بيروت وواشنطن وتحديداً بين رئيس مجلس النواب نبيه بري والمفاوض الأميركي آموس هوكستين، ولكن بعيدا عن الإعلام بصورة شبه يومية.
وفي وقت يُبدي فيه لبنان مرونة للبحث في ترتيب الوضع جنوباً، بَدا أن المناخ الإسرائيلي الذي يحمله هوشكتاين بأن المعادلة التي كانت قائمة سابقاً لم تعد صالحة للعمل وأنه لا بد من معادلة جديدة قائمة على الهدوء مقابل الهدوء.
حزب الله بالطبع يرفض هذه المعادلة وهو يربطها من جهة بوقف إطلاق النار في غزة، ومن جهة أخرى بتثبيت الحدود اللبنانية وإزالة الخروقات الإسرائيلية كمدخل للبحث في القرار 1701 وبشكل كامل، ورغم ذلك فإن الأوساط السياسية لا ترى الأجواء مقفلة بدليل التواصل القائم والمستمر بين بري وهوكشتاين، والذي يؤشر للتحضير للمرحلة المقبلة رغم الأجواء السلبية السائدة.
والخماسية التي أخذت على عاتقها إعداد التسوية في الملفين عبر قطر وفرنسا، يشكلان شكّل نقطة تقاطع بين الجميع: تحظى بثقة الولايات المتحدة، ويقبلها الإيرانيون ويتشارك معها السعوديون والمصريون. وفي مرحلة سابقة من حرب غزة، حاول الفرنسيون تسويق تسوية حدودية بين لبنان وإسرائيل، تولاها إيمانويل ماكرون وفريق عمله، مباشرة وعبر مبعوثه جان إيف لودريان، على خط بيروت- تل أبيب، وأرفقوها بتسوية سياسية داخلية في لبنان يرتاح إليها حزب الله، لكن هذه المبادرة بشقيها لم يحالفها النجاح بسبب عدم ميل الحزب إعطاء هذه الورقة لفرنسا لموقفها غير المتزن من حرب غزة.
ومشروع الخماسية هو عبارة عن صفقة متكاملة يعطي فيها حزب الله تنازلاً عسكرياً في الجنوب ويأخذ مقابله مكتسباً سياسياً في الداخل. وهذه الفكرة سبق أن حاول لودريان ومن خلفه ماكرون تسويقها، لكن الحزب إياه لم يوافق عليها، لأنه على الأرجح لم يجد الثمن كافياً ليقدم هذا التنازل الكبير في الجنوب.
والحزب يرغب في أن يكون رئيس الجمهورية مطمئناً له سياسياً، ولكن، في المقابل، هناك أمور لا تشجعه على جعل مسألة الرئاسة جزءاً من صفقة إقليمية- دولية، انطلاقاً من عدة عوامل أساسية:
الأكيد أنه من غير الممكن أساساً انتخاب رئيس جمهورية في لبنان لا يقبل به حزب الله، لذا فهو يسأل كل الأطراف المعنية بالتسوية، أنه يقدم تنازلاً ميدانياً مجانياً على الحدود مع إسرائيل.
يعتبر حزب الله أنه وفي هذه اللحظة وفي ظل الشغور الرئاسي، يمسك بمفاصل السلطة وقرارها عبر نجيب ميقاتي في الحكومة ونبيه بري في مجلس النواب، إذاً، ما الفائدة التي سيجنيها إذا قدم التنازلات في الجنوب مقابل انتخاب رئيس في قصر بعبدا.
يعتقد الحزب وحلفاؤه أن انتخاب رئيس للجمهورية يفترض أن يتم ضمن صفقة سياسية متكاملة داخلياً، تشمل التفاهم على الحكومة ورئيسها وبرنامجها. وهذه مسألة تستلزم الكثير من المفاوضات مع أطراف عدة في لبنان، ومع القوى العربية والدولية، وتستغرق وقتاً قد يكون طويلاً، فيما اللجنة الخماسية تستعجل حل الأزمة ومنع الانفجار في الجنوب، في أقرب وقت ممكن.
وفوق ذلك، ولضرورات كثيرة، لن يتراجع حزب الله ومن خلفه إيران، عن طرحه الأساسي فيما يتعلق بوقف النار وإبرام أي اتفاق في الجنوب، وهو وقف الحرب في غزة وبقاء حركة حماس في القطاع. وحتى اليوم، ليست هناك مؤشرات إلى تحقيق هذا الهدف.
لذلك، إنّ حظوظ فشل المهمة الجديدة التي باشرتها اللجنة الخماسية أكبر من حظوظ نجاحها. وقد تنتهي في الداخل بلا رئيس للجمهورية ولا توافقات على الحكومة، وفي الجنوب بلا إحياء القرار 1701 ولا ترتيبات أمنية ولا ترسيم للحدود البرية.
ولكن هناك إيجابيات في انتعاش الحراك الديبلوماسي، بين حين وآخر. فهو يحدّ من الاندفاعات العمياء نحو حرب لا يريدها أحد: لا الإدارة الأميركية ولا الحلفاء الأوروبيون ولا العرب، لكن طرفي المواجهة إسرائيل وإيران قد ينجران إليها رغماً عنهما في لحظة غير محسوبة.
بالنهاية، المؤشر الأساسي لفشل عمل الخماسية يكمن في صراع أطرافها الرئيسية، فالأميركيون ضم اللجنة يرفضون محاولات السعوديين فرض أجندة مغلقة عليهم، وهذا الأمر ظهر في تسريب السفارة الأميركية ببيروت لهذا الجانب، فيما القطريون يعملون بصورة عملية لأنهم الطرف الأكثر فهماً للأطراف اللبنانية وهواجسها ومطالبها، وهذا الأمر قد يثير خوف الفرنسيين وغيرهم، وعليه فالأزمة ستطول وفقاً للصورة الأولية الظاهرة.