ثمة مثل في اللغة التركية يقول "الجغرافيا قدر" وقدر تركيا أن تكون بين الشرق والغرب بين آسيا وأوربا، في منطقة جيوسياسة حساسة، وهذا الموقع يترتب عليه الكثير من التحديات الأمنية الكبيرة التي تزداد مع ازدياد وتيرة الصراع في العالم عامة والشرق الأوسط خاصة، فالحروب اختلفت عن حروب الماضية ذات المواجهة المباشرة، وأصبحت ذات طابع استخباراتي لا يقل أهمية عن الطابع العسكري وبسبب كل هذه التطورات تم الإعلان عن إنشاء أكاديمية الاستخبارات الوطنية التركية من قبل إبراهيم قالن، رئيس جهاز المخابرات الجديد الذي خلف هاكان فيدان الذي يشغل حاليا منصب وزير الخارجية التركية.
إبراهيم قالن رجل أكاديمي والجميع كان ينتظر لمساته الأكاديمية بمنصبه الجديد وإعلانه عن إنشاء الأكاديمية الاستخبارات الوطنية سابقة من نوعها في تركيا وخطوة جديدة ذات أهمية كبيرة، لا سيما بعد التطورات الكبيرة في ملف القضية الفلسطينية والحرب الروسية الأوكرانية والحرب في سوريا وقرباغ حيث إن هدف الأكاديمية سيكون تأهيل جيل تركي قادر على فهم ومواجهة التحديات التي تواجهها تركيا داخليا وخارجيا، وستستقبل الأكاديمية طلاب البكالوريوس الذين درسوا أربع سنوات على الأقل، لكي يكملوا درجة الماجستير والدكتور بها.
أما عن مجالات الأكاديمية فهي اثنين التعليم والبحث عن طريق عقد البحوث العلمية وورش العمل والندوات والدراسات الأكاديمية الأخرى، وستبدأ الأكاديمية في قبول الطلاب لبرامج الماجستير والدكتوراه في فصل الخريف من هذا العام، وسيتمكن الطلاب أيضا من اختيار المناهج المناسبة مثل نظرية الاستخبارات والتاريخ، ومنهجيات البحث والأساليب والتحليل في الدراسات الاستخباراتية والأمنية، بالإضافة إلى دورات الرؤية مثل الفلسفة الغربية والفن الإسلامي والسينما أيضا.
الاهتمام بجهاز الاستخبارات الوطنية تطور كثير خلال حكم حزب العدالة والتنمية إيمانا منه بأهمية هذا الجهاز الذي كان له الدور الكبير في إفشال المخطط الانقلابي في 15 تموز 2016، من جماعة فتح الله غولن المصنفة على قوائم الإرهاب في تركيا بسبب محاولة تشكيلها لكيان موازٍ داخل أجهزة الدولة التركية المختلفة، وبعد هذه المحاولة الفاشلة تم الاهتمام بجهاز المخابرات بشكل أكبر، وتم بناء مقر جديد للمخابرات التركية وأطلق عليه اسم "القلعة"، وعند افتتاح الرئيس أردوغان للمقر الجديد، قال "إن المعلومات الاستخباراتية لا غنى عنها لوجود أي دولة في العالم، سواء في وقت السلم أو الحرب".
من جانب آخر وقع على عاتق الاستخبارات التركية تاريخيا دور كبير في مكافحة بي كي كي داخل وخارج تركيا وقد استطاعت تركيا تنظيف الشرق التركي من بعض المجموعات الإرهابية واستعادة السلم في تلك المناطق والدليل على هذا هو حجم السياحة المتزايد في مدن شرقي تركيا خلال السنوات الأخيرة، ولم يبق نشاط الاستخبارات التركية داخل تركيا بل تجاوز الحدود التركية، وكافح الكثير من المجموعات والميلشيات المسلحة في شمال سوريا والعراق، عبر عمليات تحييد نوعية لبعض قادة هذه المجموعات التي تحاول استفزاز تركيا من حين لأخر، بالإضافة إلى أن منذ أربع سنوات يعمل جهاز المخابرات التركي على تنظيف عملاء الموساد في تركيا حيث شهدنا عدة عمليات لتفكيك خلايا تابعة لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كان يتجسسون على بعض الشخصيات العربية والفلسطينية تخطيطا لاغتيالها.
من جانب آخر لعبت الاستخبارات التركية دورا فعالا في بعض الصراعات العالمية كالصراع في ليبيا وقرباغ على سبيل المثال، وهذا ما يقلق بعض القوى الغربية من قوة وانتشار المخابرات التركية حول العالم، إذ أصبحت تنافس المخابرات الغربية بل تتغلب عليها أيضا في بعض الأحيان.
إذا قارنا بين تركيا القديمة والحديثة سنلاحظ تطورا كبيرا في مجال الاستخباراتي والعسكري أدى إلى انخفاض هيمنة أجهزة الاستخبارات الأجنبية التي كانت تعيث فسادا في تركيا مثل منظمة "غلاديو" الشبكة شبه العسكرية السرية التي أُسست كطابور خامس لتنسيق عمليات استخباراتية في بعض الدول، ومنها تركيا، وعملت على نحو وثيق فيما بعد مع حلف الناتو ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية والكثير من الأجهزة الاستخباراتية الأوروبية خلال فترة الحرب الباردة، وقبل أيام قليلة أقيمت في العاصمة أنقرة فعالية بمناسبة الذكرى الـ 97 لتأسيس جهاز الاستخبارات التركي، وعلق خلالها الرئيس أردوغان على تفكيك شبكة الموساد في تركيا قائلا "انتظروا فهذه خطوة أولى، وستعرفون تركيا بحق".
المشكلة تكمن أن بعض الدول الغربية لا تزال تعامل تركيا كتركيا القديمة، أي أنهم لا يتعاملون مع تركيا حسب المعطيات الحالية الواقعية، بسبب أنهم لا يتقبلون هذا التطور الكبير الذي طرأ على تركيا خلال عقدين من الزمن.