إلى جانب العمليات العسكرية والأمنية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان، ويعطي من خلالها انطباعاً أنهم على استعداد لتصعيد المواجهة ورفع منسوبها، أو نقلها إلى مستوى العمليات الأمنية والاغتيالات، تحمل بعض الإجراءات المتخذة في الداخل الإسرائيلي التي يتم الإعلان عنها، نوعا من الاستعراض، مثل قرار الاستنفار وتعزيز وضع مستشفيات الشمال، للتلويح بأنهم يستعدون لشن عملية عسكرية واسعة ضد حزب الله.
بالمقابل تستمر الجولة الرابعة لوزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن في المنطقة منذ اندلاع الحرب في غزة، لكن يمكن القول إنها الزيارة الأولى له في إطار البحث في إرساء التسوية السياسية أو ما بات يُعرف باليوم التالي.
فمع دخول الحرب الإسرائيلية شهرها الرابع لتصبح الحرب الأطول في تاريخها، باشرت إدارة جو بايدن بحثها في طريقة ترتيب النتائج السياسية المحتملة للحرب. لكن مهمة الولايات المتحدة لا تبدو سهلة أو معبدة خصوصاً من جانب الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفاً، رغم أن التفاهم الأميركي ـ الإسرائيلي كان متكاملاً حيال ضرورة تفكيك البنية العسكرية لحركة حماس، إلا أن الرؤية مختلفة لا بل متضاربة حول اليوم التالي لوقف مسارات الحرب.
وليس من باب الصدفة أن يكشف وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت نيابة عن حكومته الخطة حول ما بعد وقف إطلاق النار قبَيل بدء بلينكن جولته في المنطقة. وكان واضحاً أن جوهر هذه الخطة يرتكز على تهجير الفلسطينيين من غزة ولو تم التمويه بالدعوة الى ذلك طوعاً وهو ما يفسّر بتَحايل مكشوف، خصوصا بسبب الواقع المعيشي والأمني والتجويع وانتفاء المأوى لسكان القطاع، وبالتالي دفعهم للرحيل الى البلدان المجاورة.
وعليه، فمن المنطقي التكهّن بأن مهمة بلينكن ليست موضع ترحاب إسرائيلي. لا بل يمكن التكهن في أن الاشتباك يمكن أن يحصل في وقت ليس ببعيد ولكن مع فارق أساسي. فرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تلزمه مصلحته الداخلية بالاندفاع الى الأمام أكثر والتماهي بشكل كلي مع الأحزاب المتطرفة وتبني ميلها للعنف والتهرب من الضغوط الأميركية من خلال الادعاء أنه ضمن تحالف حكومي صعب ويديه مقيدتان ويخشى انفراط عقده.
وهذا يعني عدم السعي الى وقف آلة القتل والمجازر، خصوصا أن إعلان انتهاء الحرب سيعني الذهاب الى انتخابات جديدة وفتح قاعات المساءلة والمحاكمة القضائية، أضف الى ذلك أن ما يشجعه على استهلاك مزيد من الوقت في الحرب هو تحسن طفيف في شعبيته. خاصة أنه ما يزال بعيداً مع وجود نسب عالية من الإسرائيليين غير راضية عن أدائه.
ومن البوابة الأميركية هنالك ما يشجع الحكومة الإسرائيلية على الذهاب الى حرب طويلة في غزة واحتمال توسيعها الى جبهات أخرى محتملة كما صرّح غالانت، فالإدارة الديمقراطية دخلت في السنة الانتخابية الصعبة، وإشارات الضعف تتزايد وكان آخرها ما حصل مع وزير الدفاع الأميركي، ولا شك في أنّ الخصم الانتخابي اللدود دونالد ترامب سيسعى الى توظيف إخفاق إدارة بايدن في الشرق الأوسط لمصلحة حَملته. وهذا يشكل في حَد ذاته عاملاً لمصلحة حكومة نتنياهو لاستهلاك الوقت وإطالة أمد الحرب.
ووفق هذا المنطلق تصبح الحرب الصغرى المفتوحة في جنوب لبنان خطرة، وإمكانية توسعها، وانفلات الأمور، واردة. فالضغط الأميركي يصبح أقل تأثيرا. خاصة أن في إسرائيل من يعتقد أن معادلة توازن الرعب التي كانت قائمة بين حزب الله وإسرائيل انتهت وأصبحت من الماضي ولا بد من معادلة جديدة تقوم على ثوابت مختلفة. الى درجة أن وزيرة الخارجية الألمانية نقلت عن الحكومة الإسرائيلية أنها ستسعى للذهاب في هذا الاتجاه، حتى لو توسعت الحرب، وأن مدة التفاوض ليست مفتوحة.
ولذلك زار منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل لبنان بعد تنسيق عالي مع وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن. وحمل في يده القرار 1701 وعدد من التحذيرات، ولكنه حمل الرسالة الأهم من خلال لقائه بالنائب محمد رعد كممثل عن حزب الله: بعد أن غاب التصنيف الإرهابي الذي اعتادت عليه العواصم الغربية باستثناء فرنسا، وهي إشارة لها دلالاتها المستقبلية.
فيما وصل المبعوث الأميركي لشؤون أمن الطاقة آموس هوكشتاين الى بيروت وهو يحمل مزيجاً من الأفكار المتضاربة في بعض الأحيان، مثل ترك مزارع شبعا جانباً ولمرحلة أخرى. وقد يكون المقصود هنا التمهيد لترتيب الحدود اللبنانية ـ السورية البرية في المرحلة اللاحقة.
والأفكار التي سبقت وصول هوكشتاين تحدثت عن المنطقة الخالية من السلاح على الأقل ظاهراً وفوق الأرض، أما تحت الأرض فقواعدها مختلفة، وإيلاء دور أكثر فاعلية لقوات اليونيفيل الى جانب الجيش اللبناني، على أن يبقى هذا التفاهم بتفاصيله بعيداً عن التداول، إضافة الى مطالب لبنانية حول الالتزامات المطلوبة من الجانب الإسرائيلي.
وثمّة نقاط أخرى تبدو شديدة الحساسية، فإذا كان الهدف الأساسي من ترتيب الوضع جنوباً وفق المعنى الإقليمي هو فك الاشتباك وإزالة خط التماس بين حزب الله والإسرائيلي عبر الساحة اللبنانية، فإن ما يطرحه الغرب هو حول مستقبل القرار السياسي للمخيمات الفلسطينية في لبنان.
ومن هذا المنطلق تتردد في الكواليس الدبلوماسية أن اغتيال الشيخ صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت حمل رسائل عدة مثل تلك المتعلقة بالعلاقة بين حماس وحزب الله وإيران، إضافة الى الرسالة الأمنية للحزب في الضاحية الجنوبية. لكن ثمة رسالة إضافية، تتعلق بوضع حماس مستقبلاً داخل مخيمات لبنان. لأنه وبعد اندلاع حرب غزة ظهرت أفكار حول إمكانية نقل قيادات حماس لاحقاً الى مخيمات لبنان في ظل ارتفاع كبير في شعبيتها داخل هذه المخيمات. وبالتالي، جاءت الرسالة في هذا الاتجاه أيضاً.
ورغم الأهمية الفائقة التي تتركز حول المرحلة الصعبة في جنوب لبنان وحركة الموفدين والأوراق المقترحة، إلا أن ثمة تخبط بين الحلول في الجنوب والحلول الرئاسية. الى درجة أن البعض بات يتحدث عن ترابط أو مُقايضة بين الملفين.
من هذا المنطلق الدول الخمس المعنية بلبنان أعطَت موافقتها على عقد اجتماع خماسي خلال أيام، في ظل إصرار القاهرة أن يحصل الاجتماع في ضيافتها بدلاً من باريس، كما أن الوضع يفترض حصول اللقاء الثالث في عاصمة عربية. ولم يسجل اعتراض أي دولة على الطلب المصري رغم من عدم الاتفاق بعد على موعد محدد لهذا اللقاء.
لكنّ النقاشات الدائرة تحضيراً للقاء شددت على وجوب الانطلاق في سلوك أكثر فاعلية وتحديداً نظراً الى وجوب مواكبة الظروف الخطرة الموجودة، وبالتالي السعي الى انتخاب رئيس لحماية الدولة اللبنانية من المخاطر المشرّعة ومواكبة الحلول والتسويات الجاري طرحها.