عند محاولة اختيار أهم هذه الأحداث، يخطر في البال على الفور فوز الرئيس رجب طيب أردوغان بولاية رئاسية ثالثة. وأرى أنه اختيار واقعي لأن انتخابات مايو كانت أكبر بكثير من مُجرد استحقاق انتخابي عادي لإعادة تشكيل السلطة في البلاد. فهي كشفت حجم القوة الكبيرة التي لا يزال أردوغان وحزب العدالة والتنمية يحظيان بها رغم مرور أكثر من عقدين على حكمه.
كما كشفت أن الوحدة غير المسبوقة لأحزاب المعارضة في التاريخ السياسي التركي الحديث للإطاحة بحكم أردوغان كانت مُجرد فقاعة.
علاوة على ذلك، حظيت انتخابات مايو باهتمام عالمي كبير لدرجة أن بعض الصحافة العالمية المرموقة وصفتها بأنها أهم انتخابات على مستوى العالم في 2023. مع ذلك، فإن الزلزال المؤلم الذي شهدته تركيا في فبراير/شباط الماضي وأودى بحياة أكثر من خمسين ألف شخص وخلف دماراً هائلاً تتجاوز تكلفة إعادة إعماره أكثر من مئة مليار دولار أمريكي، سيبقى خالداً في الذاكرة التركية لعقود طويلة لأنّه كان أكبر كارثة طبيعية تشهدها البلاد منذ نحو قرن. ولا نملك في هذه المناسبة سوى استذكار الضحايا والترحم على أرواحهم والإشادة بشجاعة آلاف العائلات التركية التي تُكافح لتجاوز هذه المحنة العظيمة.
رغم الخسائر البشرية والمادية الكبيرة، إلآّ أن الوجه المُشرق لمرحلة ما بعد الزلزال هو أن تركيا أظهرت قدرة كبيرة في التعافي من الكارثة. لقد وعد أردوغان منذ اللحظة الأولى للزلزال بإعادة إعمار المناطق المنكوبة وتوفير منازل جديدة للمتضررين وتقديم شتى أنوع الدعم لهم، وأرى أن جانباً كبيراً من هذه الوعود تحقق بالفعل. ولا يُخفى أن عملية إعادة الإعمار لا تزال تتطلب الكثير من الجهود الشاقة. كان من المأمول أن تُشكل الكارثة لحظة وطنية استثنائية لتعالي الأحزاب السياسية عن خصوماتها ومنافستها الانتخابية وتركيز الجهود على كيفية التعافي السريع، لكنّ هذا لم يحصل للأسف. ولو كان هناك اختيار لأسوأ الأحداث التي شهدتها تركيا في 2023 غير الزلزال، فهو محاولة أحزاب المعارضة توظيفه أجل تعظيم فرصها في الانتخابات. إن انتقاد أداء الحكومة في إدارة الكارثة أو اتهامها بالتقصير في مراقبة جودة البناء يبقى مشروعاً في نظام سياسي ينبض بالحياة، لكنّ النقد من أجل النقد فقط والمسارعة إلى هذا النقد بينما آلاف الضحايا لا يزالوا عالقين تحت الأنقاض وآلاف العائلات أضحت بلا مأوى، يعكس الجانب الغير أخلاقي في السياسة الداخلية التركية وانعدام حس المسؤولية الوطنية.
بالعودة إلى انتخابات مايو، كونها أهم الأحداث السياسية التركية في 2023، فقد رسمت خارطة طريق لتركيا ليس فقط للسنوات الخمس المقبلة، بل أيضاً للقرن الثاني من عمر الجمهورية. ويُمكن تقسيم تداعيات انتخابات مايو على مسارين، الأول يتمثل بالتحولات الكبيرة التي أحدثها أردوغان على السياستين الداخلية والخارجية والاقتصاد. والثاني يتمثل بالعاصفة الكبيرة التي ضربت جبهة المعارضة وأدت إلى انهيارها. عكس تشكيل أردوغان حكومة جديدة بتغييرات كبيرة في المناصب الوزارية الأساسية رغبته في تشكيل حكم جديد يواكب طموحات القرن الثاني للجمهورية والتحديات الراهنة المحيطة بها. وكان اختيار فريق اقتصادي جديد بقيادة وزير المالية محمد شيمشيك والعودة إلى النهج الاقتصادي التقليدي لمواجهة أزمة التضخم من بين أهم تحولات 2023 التركية. ومن المؤكد أن الاقتصاد سيبقى على قائمة التحديات التي تواجه تركيا في العام الجديد، لكنّ بعض المؤشرات الناتجة عن النهج الاقتصادي الجديد تبعث على التفاؤل. بالإضافة إلى الاقتصاد، تبرز التغييرات الكبيرة التي أجراها أردوغان داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم وضخ دماء جديدة فيه على قائمة أهم تحولات العام في تركيا. كحزب يحكم البلاد منذ أكثر من عقدين، فإن ضخ دماء جديدة شابة فيه تجعله أكثر قدرة على إعادة إنتاج نفسه.
ومما لا شك فيه أن أهم الأحداث التي تنتظر تركيا في 2024 هي الانتخابات المحلية التي ستُجرى في الحادي والثلاثين من مارس/آذار المقبل. على غرار أهمية انتخابات مايو، فإن انتخابات مارس لن تكون عادية أو مُجرد انتخابات لإعادة تشكيل المجالس المحلية. فهي ستعمل على إكمال المشهد السياسي الداخلي الذي سيُصاحب تركيا لخمس سنوات جديدة. إن قدرة حزب العدالة والتنمية والتحالف الحاكم على استعادة السيطرة على البلديات الحضرية الكبرى التي ستُشكل محور المنافسة الانتخابية المقبلة، مثل إسطنبول وأنقرة ستُظهر بالفعل مدى قدرة الحزب الحاكم على إعادة إنتاج نفسه كما لو أنه تسلم السلطة للتو. ولا تقل أهمية انتخابات مارس للحزب الحاكم عما هو الحال عليه بالنسبة للمعارضة. لكنّ جبهة المعارضة في عام 2024 ستكون مختلفة جذرية عما كانت عليه في 2023. علاوة على صراع الهويات، الذي أنهى تحالف المصلحة بين مكونات المعارضة عموماً وحزبي "الشعب الجمهوري" و"الجيد" على وجه الخصوص، فإن العرض الذي ستُقدمه المعارضة في انتخابات مارس سيُحدد مدى قدرتها على الحفاظ على الهامش المحدود لمكانتها في السياسة الداخلية. ستُعيد نتائج انتخابات مارس تشكيل المشهد السياسي الداخلي والعلاقة بين أحزاب المعارضة.
في السياسة الخارجية، حمل عام 2023 المزيد من النجاحات التركية على صعيد تقليص العداوات وزيادة الصداقات وتعظيم المكانة الخارجية لأنقرة في السياسات الإقليمية والدولية. يُمكن النظر إلى إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية بالكامل مع مصر وإسرائيل وتعميق الشراكات الجديدة مع منطقة الخليج، وتبني نهج جديد إيجابي في العلاقة مع الغرب، والزيارة التاريخية لأردوغان إلى اليونان، وتعزيز تركيا لدورها كوسيط للقوة والاستقرار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب القوقاز على أنها أهم تلك النجاحات. وسيتعين على تركيا في 2024 تركيز جهودها الخارجية بشكل أساسي على كيفية دفع العلاقات الجديدة مع الغرب إلى الأمام. سيكون ملف إتمام عضوية السويد في الناتو والحصول على صفقة شراء مقاتلات إف ستة عشر من الولايات المتحدة على قائمة اهتمامات أنقرة. ستبقى الحرب الإسرائيلية على غزة ضاغطة بشكل كبير على العلاقات التركية الإسرائيلية وعلى السياسات الشرق أوسطية عموماً. رغم ذلك، فإن الحرب خلقت فرصة لتركيا لتعزيز حضورها في القضية الفلسطينية وقد نرى نتائج هذه الفرصة بشكل أكبر في العام الجديد.
تبرز الزيارة المتوقعة التي سيُجريها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا مطلع العام الجديد كمحطة مهمة لتطوير العلاقات التركية الروسية. في فبراير/شباط المقبل، ستطوي الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثالث. وقد استطاعت أنقرة خلال هذه الأعوام تعزيز مكانتها كقوة سلام ووسيط بين موسكو وكييف. ومن المرجح أن تواصل هذا النهج البناء في مقاربة الحرب في 2024. أخيراً، سيكون أهم حدث عالمي في العام الجديد الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سيكون لنتائجها آثار كبيرة على السياسة الخارجية التركية كما السياسات العالمية. وتبدو أنقرة مستعدة على قدر كبير لنتائجها المحتملة من خلال محاولتها خلق علاقة عمل مع إدارة الرئيس جو بايدن والمضي بها في حال نجح في البقاء في السلطة، ومن خلال علاقة العمل الفعالة التي أقامتها مع الرئيس السابق دونالد ترامب، والتي ستعود إلى الطاولة مُجدداً في حال عاد ترامب إلى البيت الأبيض.