تركيا والواقعية الجيوسياسية

محمود علوش @@mahmoudallouch
اسطنبول
نشر في 22.08.2023 18:23
آخر تحديث في 22.08.2023 18:25
رجب طيب أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في القمة 22  لرؤساء دول منظمة شنغهاي للتعاون، في سمرقند، أوزبكستان. 16 سبتمبر 2022 IHA رجب طيب أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في القمة 22 لرؤساء دول منظمة شنغهاي للتعاون، في سمرقند، أوزبكستان. 16 سبتمبر 2022 (IHA)

عندما يلتقي الرئيسان رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين قريباً، سيسعيان إلى التأكيد على أن علاقة العمل القوية بينهما ستمضي قدماً حتى في الوقت الذي تظهر فيه تباينات بين البلدين في بعض القضايا وتسعى أنقرة لتحسين علاقاتها بالغرب.

مع أن الظروف التي صاحبت نمو العلاقات التركية الروسية منذ النصف الثاني من العقد الماضي ارتبطت في الغالب بتدهور علاقات أنقرة بالغرب، إلآّ أن هذا الترابط في الديناميكيات لا يُمكن اعتباره عاملاً حاسماً في تفسير سياسات تركيا الخارجية منذ تلك الفترة بقدر ما عكس واقعية جيوسياسية. لم تكن الشراكة التركية الروسية نتيجة كاملة لتراجع العلاقات التركية الغربية بقدر ما كانت انعكاساً لاتساع رقعة المصالح المتشابكة بين أنقرة وموسكو في مجالات حيوية. على سبيل المثال، فرض التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، وما أحدثه من تحول كبير في مسار الصراع السوري لصالح النظام السوري وحلفائه، على أنقرة التعاون مع موسكو لتعزيز حضورها في سوريا وحماية مصالحها. كما أن طموحات تركيا لتعزيز حضورها في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، فرضت عليها تعزيز تعاونها الجيوسياسي مع روسيا التي تلعب دوراً قيادياً في هذه المناطق.

في غضون ذلك، لم يكن تدهور العلاقات التركية الغربية رد فعل على الشراكة التركية الروسية بقدر ما كان انعكاساً لتضارب المصالح الجيوسياسية بين أنقرة والغرب في هذه المجالات. في الصراع السوري، الذي شكّل منعطفاً حاسماً في تحولات السياسة الخارجية التركية بعد النصف الثاني من العقد الماضي، وجدت تركيا نفسها في مواجهة مع الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية التي دعمت المشروع الانفصالي لتنظيم "واي بي جي" الذراع السوري لمنظمة "بي كا كا" الإرهابية. كما أن الشراكات الدفاعية القوية التي أقامتها واشنطن وباريس مع اليونان في السنوات اللاحقة عمّقت على نحو متزايد من اضطراب العلاقات التركية الغربية عموماً. علاوة على ذلك، فإن الجمود الذي طرأ على ملف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ساهم أيضاً في دفع تركيا إلى تعزيز استقلاليتها في السياسة الخارجية عن الغرب وتعميق توجّهاتها الأوراسية، حيث بدأت تنظر إلى تعميق علاقاتها مع الشرق وزيادة تأثيرها في محيطها الإقليمي الجنوبي كوسيلة لتحقيق الحكم الذاتي الاستراتيجي والتحول قوة قائمة بحد ذاتها ومستقلة عن القوى الكبرى في سياستها الخارجية.

ومع أن بعض الجوانب في الشراكة التركية الروسية كانت نتيجة مباشرة لتدهور العلاقات التركية الغربية مثل التعاون في مجالات التعاون الدفاعي، إلآّ أن الحقيقة الواضحة التي يُمكن استخلاصها من تفاعلات تركيا مع روسيا والغرب في السنوات السبع الأخيرة أنها هدفت لتعزيز ميل أنقرة نحو الحكم الذاتي الاستراتيجي بقدر أكبر من إحداث تغيير جذري في تموضعها الجيوسياسي نحو الشرق وبعيداً عن الغرب.

ما يُعزز هذه الحقيقة أن الشراكة التركية الروسية ترتكز بشكل أساسي على المنفعة المتبادلة بقدر أكبر بكثير من التلاقي في الهوية الجيوسياسية وهو أمر لا يُمكن تصوره بأي حال بالنظر إلى أن التنافس لا يزال يُهمين بشكل أكبر على التفاعلات التركية الروسية حتى في المجالات التي تظهر فيها المصالح المتداخلة مثل سوريا وجنوب القوقاز والبحر الأسود. كما أن التوترات التركية الغربية لم تُغير من واقع أن تركيا لا تزال تنظر إلى نفسها على أنّها جزء من المنظومة الغربية من حيث الهوية الجيوسياسية مع فارق أنها تعمل على خلق هامش آكبر لها لتحقيق مصالحها الوطنية في هذه العلاقة عندما تتضارب مع المصالح الغربية. في الاقتصاد على سبيل المثال، لا يزال الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لتركيا، كما أن عضوية أنقرة في حلف الناتو لا تزال تمنحها الكثير من المزايا الجيوسياسية الكبيرة في سياستها الخارجية. علاوة على ذلك، لا تزال تركيا تنظر إلى التعاون الدفاعي مع الغرب على أنّه حاجة لا يُمكن الاستغناء عنها بأي حال لأنها ببساطة عضو فعال في الناتو وتمتلك ثاني أكبر جيش فيه، لكنّها في المقابل تعمل على تعزيز استقلاليتها في هذا المجال الحساس أيضاً.

حتى لو كانت العلاقات التركية الغربية في أفضل حالاتها، فإن الحاجة التركية إلى التعاون مع موسكو في بعض المجالات الحيوية ستبقى قائمة من منظور الواقعية الجيوسياسية. كما أن التفاعل القوي بين أنقرة وموسكو لا يُمكن أن يًصبح بديلاً لعلاقات تركيا مع الغرب وفق هذا المنظور. مع أن التباينات بين تركيا وروسيا تنسحب في الواقع على معظم المجالات التي يتعاونان فيها مثل سوريا وجنوب القوقاز والبحر الأسود.

لكن ما يُفسر كيف أن العلاقات التركية الروسية أكثر استقراراً من العلاقات التركية الغربية هو أن كلاً من أنقرة وموسكو قررتا التركيز على القواسم المشتركة بقدر أكبر من التباينات. لم يكن الأمر كذلك بالنسبة لحالة تركيا والغرب لأن الغربيين عموماً عادة يعملون على تأطير تراجع علاقتهم بتركيا في سياق ابتعادها عن القيم الغربية.

مع أن هذا التأطير، الذي يلعب دوراً محدوداً في تفسير الأسباب العميقة لتراجع العلاقات التركية الغربية، حال في السنوات الماضية دون دفع الغرب إلى محاولة البحث عن سبل للمضي في العمل مع تركيا من منظور الواقعية الجيوسياسية، إلآّ أن خارطة الطريق التي نجحت تركيا والغرب في وضعها على هامش قمة الناتو الأخيرة في فيلنيوس أظهرت أن ذلك مُمكن إذا تفوقت الواقعية الجيوسياسية على الأيديولوجيا في التأثير بقدر أكبر على ديناميكية العلاقات التركية الغربية.