في السنوات الأولى من عمر الصراع في سوريا، كانت استراتيجية تركيا في التعاطي مع حالة تنظيم "واي بي جي"، الذراع السوري لمنظمة "بي كا كا" الإرهابية، مزيجاً من التلويح باستخدام القوة في حال تجاوز التنظيم الخطوط الحمراء التركية، والدبلوماسية مع الولايات المتحدة لدفعها إلى التخلي عن دعمها للتنظيم.
ومع تصعيد "واي بي جي" هجماته على تركيا ومحاولته ربط مناطق سيطرته في شرق الفرات بغربه، تحوّلت الاستراتيجية التركية إلى التدخل العسكري من خلال شن أربع عمليات لمكافحة الإرهاب بداية من عام عملية "درع الفرات" عام 2016 وصولاً إلى عملية نبع السلام عام 2019.
مع مرور سبع سنوات على عملية درع الفرات، يُمكن القول إن الدرس المهم الذي تعلّمته تركيا من تجربة السنوات الأولى من الحرب السورية هو أن وجودها العسكري على الأرض جعلها أكثر فعالية في مكافحة الإرهاب وفرض على الفاعلين المؤثرين في مسار الصراع الإقرار بدورها ومصالحها. لذلك، لا يبدو مستغرباً اليوم أن تتمسك تركيا بوجودها العسكري في سوريا إلى حين تحقيق متطلبات أمنها القومي بالكامل.
عندما شرعت أنقرة في حوار مع النظام السوري برعاية روسية نهاية العام الماضي، سعت إلى تعزيز استراتيجيتها الأمنية في سوريا من خلال البحث عن سبل للتعاون مع النظام في مكافحة الإرهاب وتوفير الظروف المناسبة لإعادة اللاجئين السوريين في تركيا ودفع عملية التسوية السياسية الشاملة للصراع السوري. لكنّها كررت التأكيد أكثر من مرة على أن مصير وجودها العسكري في سوريا لن يكون مجالاً للنقاش أو المساومة في المستقبل المنظور. إلى جانب تجربة السنوات الأولى من الحرب، تبرز الكثير من الأسباب الواقعية التي تجعل تركيا تتمسك بوجودها العسكري في سوريا في الوقت الراهن. علاوة على أهمية استمرار الحضور العسكري على الأرض كوسيلة فعالة لإضعاف قدرة تنظيم "واي بي جي" على التحرك وتوفير الأمن في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في شمال غرب البلاد لتجنب موجات لجوء جديدة ولتشجيع عودة اللاجئين، تُدرك أنقرة جيداً أن الفراغ الأمني الذي سيُحدثه أي انسحاب من سوريا في هذه المرحلة سيكون بمثابة هدية للمشروع الانفصالي وسيجعلها أكثر عُرضة للمخاطر الناجمة عن الصراع.
مع أن السياسية الأمنية التركية في سوريا ترتكز على جانبين أساسيين هما إنهاء خطر الإرهاب وإعادة اللاجئين السوريين، إلآّ أنّ نجاحها مرهون أيضاً بتسوية سياسية شاملة تُعالج الأسباب العميقة الكامنة وراء الصراع وما أفرزته من مخاطر أمنية على تركيا. قدم وزير الدفاع التركي يشار غولر مؤخراً مقاربة واقعية للغاية في معالجة هواجس الأمن القومي التركي عندما قال إن أهم مرحلة لتحقيق السلام في سوريا هي صياغة دستور جديد وقبوله من الشعب السوري. إن ربط تركيا معالجة هواجسها الأمنية بتحقيق السلام في سوريا، يُقدم وصفة شاملة لنقل سوريا من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلام. بالنظر إلى أن تركيا من أكثر الدول تضرراً من هذه الحرب، فإن أولويتها الراهنة، هي دفع مسار السلام السوري. في ضوء ذلك، فإن التمسك التركي بالوجود العسكري في سوريا في المستقبل المنظور لا تفرضه فقط حاجات أمنها القومي، بل يُشكل أيضاً ورقة ضغط قوية على النظام وحلفائه الروس والإيرانيين من أجل دفعهم إلى الإقرار بأن سلاماً حقيقياً ومُستداماً في سوريا لا يُمكن أن يتحقق من دون الأخذ بعين الاعتبار الحاجة إلى معالجة جذرية للهواجس الأمنية التركية وإعادة اللاجئين والقيام بخطوات مهمة في مسار التسوية السياسية.
خلقت الانعطافة التركية في الانفتاح على الحوار مع النظام آفاقاً حقيقية لإحلال السلام في سوريا، إنما لا ينبغي النظر إليها على أنها تعكس محدودية الخيارات التركية في سوريا، أو أنها مؤشر على أن الأولويات الأمنية في تركيا تراجعت. مع أن تركيا تسعى للتكيف مع التحولات التي طرأت على ديناميكية الصراع السوري من خلال القيام بمبادرات جديدة، إلآّ أنها لا تزال ترى في وجودها العسكري في سوريا حاجة أساسية للتعامل مع المخاطر الأمنية الناجمة عن الإرهاب، ولمنع تصعيد عسكري جديد من شأنه أن يفاقم من المخاطر عليها على صعيد اللجوء. علاوة على ذلك، فإن مواصلة الحوار مع النظام للتوصل إلى أرضية مشتركة تعمل على تحقيق أهداف السياسة الأمنية التركية في سوريا لا يزال أولوية لأنقرة. مع أن النظام يحاول وضع عقبة في هذا الحوار من خلال المطالبة بانسحاب القوات التركية من سوريا أو وضع جدول زمني لهذا الانسحاب، إلآّ أن هذا الحوار يمضي بمعزل عن هذه الاشتراطات. بالنظر إلى الدور الفعال الذي تقوم به روسيا في رعاية هذا الحوار، فإن الزيارة المرتقبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا، ويُرجح أن تجري هذا الشهر، قد تؤدي إلى خطوات ملموسة هذا الاتجاه.
حقيقة أن مستقبل الوجود العسكري التركي في سوريا مرتبط بديناميكيات أخرى غير الحوار التركي السوري مثل التفاعلات الجيوسياسية التركية السورية العابرة للجغرافيا السورية والوجود العسكري للولايات المتحدة في شمال شرق سوريا ودعمها لتنظيم "واي بي جي" تجعل من هذه القضية أكثر تعقيداً من حيث الظروف اللازمة لمعالجتها. لقد حددت أنقرة ثلاثة أهداف واضحة لها في سوريا وهي تحقيق مصالحها الأمنية وإعادة اللاجئين ودفع عملية السلام، وبالتالي فإن أي حديث عن انسحاب عسكري تركي من سوريا قبل تحقيق هذه الأهداف يُشكل عقبة في مسار الحوار التركي السوري، لكنّه لن يؤدي بأي حال إلى تغيير جذري في مقاربة تركيا لدورها في سوريا.