في الرابع عشر من مايو/أيار المقبل والأيام التي ستليه، ستكون أنظار العالم من مشرقه إلى مغربه ومن شماله إلى جنوبه مُركّزة على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي ستُجريها تركيا. كبلد أضحى خلال عقدين من حكم الرئيس رجب طيب أردوغان قوة اقتصادية من بين أكبر عشرين اقتصاداً في العالم وشهد تطوراً مذهلاً في صناعاته الدفاعية التي أضحت منافسة لصناعة الأسلحة في دول كبرى ويزداد الطلب العالمي عليها، ولاعباً فاعلاً في الكثير من القضايا الإقليمية والدولية، ويكتسب الآن أهمية كبيرة في الصراع الجيوسياسي بين القوى العظمى، فإن الاهتمام العالمي بالانتخابات التي يُجريها يعكس بشكل صريح أهميته بالنسبة للعالم ودوره المؤثر في عملية إعادة تشكيل النظامين الإقليمي والدولي.
مع ذلك، فإن جانباً كبيراً من هذا الاهتمام يتعلق بالتوقعات والآمال التي تضعها القوى الكبرى والقوى الإقليمية الفاعلة على نتائج الانتخابات لأنها ستُحدد طبيعة المكانة الخارجية لتركيا في هذا العصر من الاضطراب العالمي الشديد وتموضعها في المنافسة الجيوسياسية بين القوى العظمى.
القوة في الداخل تولد قوة في الخارج. لذا، فإن انتخابات تتزامن مع لحظة تحوّلات عالمية كبيرة، لا تترك لتركيا رفاهية التراجع عن تفاعلها القوي مع التحولات الإقليمية والدولية والتخلي عن المكتسبات الكبيرة التي حققتها في هذا المجال.
حقيقة أن الدور الخارجي الجديد لتركيا خلال العقدين الماضيين ارتبط بالمفهوم الجديد الذي صاغه أردوغان لمجال الأمن والسياسة الخارجية والاقتصاد، والذي أعاد تشكيل الهوية الجيوسياسية لتركيا كقوة قائمة بحد ذاتها وتسعى للموازنة بين هويتها الأطلسية وبين مصالحها مع الشرق، تجعل من استمرار هذا الدور مرهوناً بشخص أردوغان. لأن التحالف السباعي للمعارضة التركية لم يستطيع صياغة رؤية واضحة لكيفية التعامل الفعال مع التحديات الأمنية التي تواجه تركيا في حال وصوله إلى السلطة وكيفية إدارة السياسية الخارجية بشكل لا يُضعف مكانة تركيا على الساحة الدولية والكيفية التي سيوزان فيها بين هويتها الأطلسية ومصالحها مع الشرق، يجعل من الصعب الاعتقاد بأن تركيا في ظل حكم المعارضة ستكون قادرة على الاستجابة الفعالة للتحديات الخارجية.
الولايات المتحدة والغرب عموماً لا يُخفي امتعاضه من النهج القوي لأردوغان في السياسة الخارجية لأنها ببساطة جعلت أنقرة أكثر استقلالية عن الغربيين في مجالات الأمن والسياسة الخارجية والاقتصاد وأتاحت لها فرصة تجنب صدام مع روسيا والدخول في تعاون تنافسي معها في محيطهما الإقليمي. لذلك، ليس سراً أن الغرب، الذي يُريد من تركيا أن تخاطر بمصالحها الحيوية مع روسيا ويسعى لتوريطها إلى جانبه في صراعه مع موسكو، يأمل أن تضع الانتخابات التركية حداً للإرث الخارجي لأردوغان.
مع أن القوة الخارجية التي كسبتها تركيا في ظل حكم أردوغان، كانت مصلحة للغرب لأنّها جعلت منها قوة أطلسية قادرة على منافسة روسيا في المناطق التي يصعب على الغربيين التفاعل فيها كآسيا الوسطى وجنوب القوقاز وملء الفراغ الذي أحدثه التراجع الغربي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلآّ أن مُشكلة الغربيين مع أردوغان تكمن أولاً في نهجه الاستقلالي في مجالات الأمن والسياسة الخارجية والاقتصاد عن الغرب، وثانياً في إعطائه أولوية لمصالح تركيا الوطنية وجعلها غير قابلة للمساومة.
حتى في الوقت الذي انخرطت تركيا بفعالية في حملة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش في سوريا والعراق منتصف العقد الماضي، تبنى أردوغان سياسة حازمة في سوريا ضد المشروع الانفصالي لتنظيم واي بي جي الإرهابي الذراع السوري لمنظمة بي كا كا الإرهابية وانتقد بشدة الدعم الأمريكي لها. وفي الوقت الذي أطلقت فيه حكومة أردوغان مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لم تتخلى أنقرة عن مصالحها القومية ودعمها لحقوق القبارصة الأتراك. على العكس من ذلك، فإن تجاهل تحالف المعارضة في وثيقته للسياسات المشتركة تبني موقف واضح من صراع تركيا مع منظمة بي كا كا الإرهابية وفرعها السوري ودخوله في تحالف مع حزب الشعوب الديمقراطي ومن خلفه منظمة بي كاكا، ورؤيته الضعيفة لحل القضية القبرصية، والتي تجاهلت فيها حل الدولتين الذي وضعه أردوغان كمُحدد لأي تسوية لهذه القضية، كل ذلك، يجعل فوزها في الانتخابات حاجة للغرب.
بالنسبة لروسيا، التي استطاعت في ظل السياسة الخارجية القوية والرصينة لأردوغان إقامة علاقات وثيقة مع تركيا قائمة على المنفعة المتبادلة، لا شك أنها تُراقب بعناية هذه الانتخابات. لا تبدو الوعود التي تُقدمها المعارضة بإعادة التأكيد على الهوية الأطلسية لتركيا مشجعة لمستقبل العلاقات التركية الروسية. بالقدر الذي أبدى فيه أردوغان صرامة في الدفاع عن مصالح تركيا في شراكتها الجيوسياسية مع روسيا، فإنه أظهر احتراماً كبيراً لدى موسكو لأنّه تحدى الضغوط الغربية وحافظ على علاقة ودية معها. علاوة على ذلك، فإن النهج المتوازن لأردوغان في الحرب الروسية الأوكرانية ساعد تركيا في منع تحول منطقة البحر الأسود إلى بؤرة صراع بين روسيا والغرب. مثل هذا الأمر مُزعج للغرب على وجه الخصوص لأنّه قيد قدرته على مواجهة روسيا في البحر الأسود. لا تملك المعارضة التركية رفاهية التخلي عن هذا التوازن في حال وصلت إلى السلطة، لكنّ افتقار مشروع سياستها الخارجية إلى القدرة على موازنة المصالح بين روسيا والغرب، يجعل تركيا أكثر عرضة للمخاطر الناجمة عن هذه الحرب وصراع القوى الكبرى.
أخيراً، تجذب انتخابات تركيا اهتماماً استثنائياً في محيطها العربي. في الوقت الذي يشهد الشرق الأوسط منذ ثلاثة أعوام إعادة تشكيل لجغرافيته السياسية، فإن تركيا فاعل أساسي في هذه العملية وقد أثبتت أنها حجر زاوية في صناعة الاستقرار الإقليمي. لقد أدى الانفتاح الذي تبناه أردوغان مع المنطقة العربية إلى فتح آفاق جديدة للعلاقات التركية العربية، وأضحى دور تركيا في المنطقة العربية حاجة جيوسياسية للعالم العربي لمعالجة صراعات المنطقة والموازنة مع النفوذ الإقليمي لإيران. لأن المعارضة التركية لم تُقدم رؤية واضحة لكيفية إدارة السياسة الإقليمية، فقد ساهم ذلك في خلق حالة من عدم اليقين تجاه السياسة الخارجية التركية في المنطقة العربية. بالقدر الذي ساهمت فيه التفاعلات السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية القوية التي حققها أردوغان مع العالم العربي في نقل العلاقات التركية العربية إلى مراحل الشراكة الاستراتيجية، فإن تراجعاً محتملاً لهذه التفاعلات سيُشكل انتكاسة كبيرة لمشروع الشراكة التركية العربية وسيحدث خللا كبيرا في عملية إعادة تشكيل النظام الإقليمي.