شهدت العاصمة الخرطوم، صباح اليوم الاثنين، سلسة اعتقالات طالت رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وعدد من الوزراء، وقادة من قوى "إعلان الحرية والتغيير".
وأفادت مصادر محلية أن من بين أبرز المعتقلين وزير الصناعة إبراهيم الشيخ، ووالي الخرطوم أيمن نمر، والمستشار الإعلامي لرئيس الوزراء فيصل محمد صالح، إضافة إلى مستشار رئيس الوزراء ياسر عرمان، وعدد من قيادات في أحزاب "البعث العربي المشترك"، و"التجمع الاتحادي"، و"المؤتمر السوداني".
وأعلن مكتب رئيس الوزراء، ووزارة الإعلام والثقافة -عبر صفحتها على فيسبوك- أن رئيس الوزراء حمدوك وزوجته اقتيدوا إلى مكان مجهول بعد رفضه إصدار بيان يؤيد فيه الانقلاب، مشددين على أن ما حدث يمثل تمزيقا للوثيقة الدستورية وانقلابا مكتملا على مكتسبات الثورة.
رفض الانقلاب في الأوساط السياسية السودانية
لاقى الانقلاب العسكري ردود فعل رافضة في الأوساط السياسية، فوصفت وزير الخارجية "مريم الصادق المهدي" أن ما حدث انقلاب كامل الأركان، وسيتم مقاومته بكافة الوسائل المدنية، داعية الجماهير إلى قطع الطرق على التحركات العسكرية.
وأشارت إلى أنه لا توجد أي اتصالات بين وزراء الحكومة بسبب انقطاع وسائل التواصل المباشرة وإغلاق الجسور، مضيفة أن وزراء الحكومة غير المعتقلين سيجدون طريقة للتواصل، وترتيب الأمور خلال الساعات القادمة.
من جانبها رفضت عدة أحزاب سودانية الانقلاب، "حزب الشعب السوداني" دعا إلى التحلي باليقظة والحذر والانتباه والاستعداد للتصدي للمؤامرات التي تحاك من قبل ما أسماهم بأعداء الثورة، بينما حث "الحزب الشيوعي" السلطات للكشف عن الحقائق المرتبطة بالمحاولة الانقلابية ونشرها للرأي العام، إضافة إلى تقديم الجناة إلى محاكم عادلة علنية.
وأكد حزب "التجمع الاتحادي" في بيانه، رفض الانقلابات العسكرية، مشددا على ضرورة إنجاح الانتقال الديمقراطي في البلاد، رافضا العودة إلى ما وصفها بعهود الظلم والاستبداد.
وقال "حزب المؤتمر الشعبي" إنه سيظل حارسا للانتقال الديمقراطي، والدفاع عنه بالوسائل السلمية في وجه أي محاولة لتقويض أركان الدولة والدستور عبر انقلابات أو غيرها.
أما "حزب الاتحاد الديمقراطي"، فدعا إلى تكوين حكومة كفاءات وطنية تخرج البلاد من أزمتها، وتنشغل بمعاش الناس، وتحقق الانتقال الديمقراطي بسلام عن طريق إجراء انتخابات حرة ونزيهة.
ودعا "تحالف قوى الاجماع الوطني" إلى إجراء محاكمات فورية لرموز النظام السابق القابعين في السجون، وإعادة هيكلة القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى، متهمة ما وصفتهم بفلول النظام البائد داخل القوات المسلحة بالمحاولة الانقلابية.
رفض الانقلاب في القطاعات المهنية السودانية
لاقى هذا الانقلاب رفضا واسعا داخل القطاعات المهنية المختلفة، فأعلن "اتحاد الطيارين السودانيين" الإضراب العام والعصيان المدني والخروج للشوارع ردا على الانقلاب العسكري.
كذلك قررت "نقابة الأطباء" الانسحاب من المستشفيات العسكرية، معلنة الإضراب العام في المستشفيات باستثناء الحالات الطارئة، ومطالبة القطاعات المهنية بالنزول إلى الشارع.
كما أعلن "تجمع المصرفيين" أن موظفي القطاع دخلوا في إضراب وعصيان مدني مفتوح، رفضا للاعتقالات ولما وصفوه بمحاولات الاستيلاء على السلطة، داعيا جموع الشعب إلى الاستعداد لمقاومة الانقلاب والخروج في كافة الشوارع والميادين بالبلاد.
قادة الانقلاب
وأفاد وزير الدفاع الفريق ركن ياسين إبراهيم، بأن قائد المحاولة الانقلابية هو اللواء ركن عبد الباقي الحسن عثمان بكراوي، ومعه 22 ضابطا آخرين برتب مختلفة، وعدد من ضباط الصف والجنود.
استعداد قوات الجيش للانقلاب
لم يكن الانقلاب العسكري في السودان وليد اللحظة، بل كانت هناك إشارات وتجهيزات لهذا الأمر، أولها المحاولة الانقلابية الفاشلة في 21 سبتمبر/أيلول الماضي، ما أحدث انقسام في الائتلاف الحاكم بالسودان، في ظل توتر بين المكونين المدني والعسكري بمجلس السيادة، ما أدى إلى وقف الاجتماعات بين الطرفين.
كذلك تحميل المكون العسكري حكومة حمدوك المسؤولية الكاملة عن سوء الأوضاع المعيشية بالبلاد، ودعوته إلى حلها بشكل متكرر، وهو ما رفضه حمدوك والأحزاب الداعمة له مؤكدين أن المسؤولية هي مشتركة بين كل فئات الشعب.
قطع الإنترنت وإغلاق الطرق
لجأ قادة الانقلاب العسكري في السودان إلى قطع شبكة الإنترنت، والاتصال في مناطق مختلفة بالعاصمة الخرطوم، كذلك قامت قوات من الجيش بإغلاق الجسور والانفاق، بحسب الرافضين للانقلاب للتعتيم على ممارسات القمع والإرهاب، ما أعاد إلى ذاكرتهم ممارسات اللجان الأمنية بعد مجزرة القيادة العامة في يونيو/حزيران 2019.
اقتحام مقر الإذاعة والتلفزيون واستهداف الإذاعات
واقتحمت قوات عسكرية مشتركة مقر الإذاعة والتلفزيون بمدينة أم درمان، كما احتجزت عددا من العاملين به، جاء ذلك في بيان وزارة الثقافة والإعلام السودانية عبر حسابها الموثق على موقع فيسبوك، دون مزيد من التفاصيل.
كذلك قطع بث عدد من الإذاعات السودانية من بينها الإذاعة الرسمية على موجات إف إم.
ردود الفعل الشعبية واعتداء قوات الجيش على المتظاهرين
وفور الإعلان عن حملات الاعتقال الموسعة وممارسات الجيش السوداني، خرج السودانيون الرافضون للانقلاب العسكري إلى شوارع وميادين الخرطوم، احتجاجا على الانقلاب وممارسة قادته.
وحسب ما نشرته صحيفة "الراكوبة" السودانية، فإن قوات الدعم السريع التابعة للجيش أطلقت الرصاص تجاه المتظاهرين أمام مقر القيادة العامة للجيش، ما أدى إلى وقوع عدد من الإصابات قدرت بحوالي 12 حالة وفقا لنقابة الأطباء.
ووفق تجمع المهنيين السودانيين، فإن المتظاهرين تمكنوا من الدخول إلى مقر القيادة العامة بعد اقتحام الحواجز المحيطة به.
قلق ورفض عالمي تجاه انقلاب السودان
بعد ساعات قليلة من إعلان مبعوث الولايات المتحدة للقرن الإفريقي "جيفري فيلتمان" عن تفاؤله بوجود مخرج لأزمة السودان، بعد لقائه مع رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك ورئيس السيادة عبد الفتاح البرهان بالعاصمة الخرطوم، انقلبت الأحداث رأسا على عقب، ونفذ الأخير الانقلاب العسكري.
"الولايات المتحدة" أعلنت "رفضها القاطع" لما وصفته استيلاء الجيش على الحكومة الانتقالية في السودان، مهددة بقطع المساعدات حال فرضت أي تغيرات بالقوة، جاء ذلك في تغريدة فيلتمان على تويتر معتبراً أن ما حدث مخالف للإعلان الدستوري والتطلعات الديمقراطية للشعب السوداني وغير مقبول بتاتا.
بدوره أعرب الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوربي، جوزيب بوريل، في تغريدة على تويتر عن قلقه البالغ تجاه تطورات السودان، داعيا لإعادة العملية الانتقالية إلى مسارها الصحيح.
من جانبها أعلنت الخارجية الألمانية إدانتها لمحاولة الانقلاب بالسودان، داعية الجيش إلى احترام عملية الانتقال السلمي نحو الديمقراطية، وقال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس في بيان إن التقارير عن السودان مقلقة للغاية، مطالبا القوات الأمنية بالبلاد بالعودة إلى ثكناتها على الفور.
عربيا أبدت الجامعة العربية قلقها البالغ إزاء التطورات في السودان، مطالبة جميع الأطراف السودانية بالتقيد الكامل بالوثيقة الدستورية التي وقعت في أغسطس/آب 2019، واتفاق جوبا 2020.
وقال الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط في بيان: "من المهم احترام جميع المقررات والاتفاقات التي تم التوافق عليها بشأن الفترة الانتقالية، وصولا إلى إجراء الانتخابات"، داعيا إلى ضرورة الامتناع عن أي إجراءات من شأنها تعطيل الفترة الانتقالية، أو هز استقرار البلاد.
وفي سياق متصل أوضح الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي يوسف العثيمين أن الحوار هو السبيل لتجاوز الخلافات تغليبا للمصلحة العليا للشعب السوداني، ولتحقيق تطلعاته في الأمن والازدهار والتنمية.
إفريقياً، دعت مفوضية الاتحاد الإفريقي إلى إطلاق سراح جميع القادة السياسيين المعتقلين، وقال رئيس المفوضية موسى فقي محمد، في بيان نشر على موقعها: "علمنا بقلق عميق بالتطور الخطير بالسودان، واعتقال رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ومسؤولين مدنيين آخرين، لذلك نطالب بإطلاق سراحهم والاحترام الصارم لحقوق الإنسان".
ودعا رئيس المفوضية إلى استئناف المشاورات الفورية بين المدنيين والعسكريين في إطار الإعلان السياسي والمرسوم الدستوري.
تاريخ الانقلابات بالسودان
شهد السودان خلال 64 عاما ثلاثة انقلابات و8 محاولات انقلابية فاشلة، كان أولها عام 1957 عندما قام مجموعة من ضباط الجيش والطلاب الحربيين بقيادة إسماعيل كبيده، ضد أول حكومة وطنية ديمقراطية، لكن المحاولة فشلت وأُحبطت في مراحلها الأخيرة.
ثم محاولة أخرى ناجحة في 17 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1958 ضد حكومة ائتلاف ديمقراطية بين حزب الأمة والاتحاد الديمقراطي، وسرعان ما شكل الانقلابيون حكومة عسكرية برئاسة الفريق إبراهيم عبود حكمت السودان 7 سنوات.
وشهد انقلاب 25 مايو/أيار 1969 حكما امتد 16 عاما، فكان هذا الانقلاب من أكثر الانقلابات تأثيرا على البلاد، وقام به آنذاك جعفر محمد نميري ومجموعة من الضباط المحسوبين على الحزب الشيوعي والقومية العربية، وعانى السودان خلال هذه الفترة من محاولات انقلابية كثيرة لكنها جميعا باءت بالفشل.
انقلاب 19 يوليو/تموز عام1971، عرف بانقلاب هاشم العطا، الذي استولى جزئيا على العاصمة الخرطوم لمدة يومين، واستطاع النميري أن يعيد السلطة وحاكم الانقلابيين المدنيين والعسكريين.
وفي عام 1975 وقعت محاولة انقلابية أخرى بقيادة الضابط حسن حسين، لكنها فشلت وحُكم على الانقلابيين بالإعدام رميا بالرصاص أو الشنق حتى الموت.
وخلال محاولة انقلاب 2 يوليو 1976 حاولت القوى السياسية المعارضة لنظام النميري التي اتخذت من ليبيا مقرا لها قلب نظام الحكم، وأوكلت المهمة للعميد في الجيش آنذاك محمد نور سعد بمشاركة واسعة من عناصر المعارضة، تسللت إلى الخرطوم عبر الحدود مع ليبيا، لكن نظام النميري تعامل معها بعنف غير مسبوق.
وبعد كل هذه المحاولات الفاشلة، لم يجرؤ أحد على الانقلاب على نظام النميري مجدداً، إلا أن ثورة شعبية عارمة عصفت به في 6 إبريل/نيسان 1985، عرفت حينها باسم "انتفاضة إبريل".
وفي 30 يونيو/حزيران 1989 ساعد الإسلاميون في السودان، والمنتمين لحزب الجبهة الإسلامية القومية، عمر البشير، ليكون هو الرئيس لأطول فترة في تاريخ السودان.
وفي رمضان عام 1990 حاول اللواء عبد القادر الكدرو، واللواء طيار محمد عثمان حامد بالانقلاب على البشير، لكن المحاولة باءت بالفشل وأعدم بعدها 28 ضابطا في الجيش.
وبعد عامين أي 1992 كانت هناك محاولة فاشلة جديدة يتزعمها العقد أحمد خالد، وفي عام 2004 تحدثت الحكومة عن محاولة انقلابية ونسبتها إلى حزب المؤتمر الشعبي المعارض.
وبعد كل هذه السنوات وفي عام 2019 أعلن وزير الدفاع السوداني عوض بن عوف عزل الرئيس عمر البشير واعتقاله، ومن هنا بدأت مرحلة انتقالية في السودان، كان من المفترض أن تستمر لمدة 54 شهراً، لكن في 21 سبتمبر الماضي أعلن الجيش عن محاولة انقلابية فاشلة واتهم المدنيين في الحكومة حينها بالضلوع فيها.
وأخيرا زادت التوترات بين المكونين العسكري والمدني، حتى استيقظ العالم اليوم على انقلاب جديد في السودان، وفرض حالة طوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين، وتعليق العمل ببعض بنود الوثيقة الدستورية.