بلغت العلاقات الدبلوماسية التركية المصرية قاعاً غير مسبوق في عام 2013 عندما أطاح وزير الدفاع المصري آنذاك، عبد الفتاح السيسي بمحمد مرسي أول رئيس منتخب ديمقراطياً في مصر من خلال انقلاب عسكري.
ومنذ ذلك الحين، حافظ البلدان اللذان يمثلان قوتين إقليميتين على علاقاتهما الدبلوماسية بتمثيل اقتصر على مستوى القائم بالأعمال. مع بقائهما على خلاف بيني في كافة القضايا التي واجهتهما، سواء في سوريا أو الأزمة الخليجية بين قطر والمحور الذي تقوده السعودية أو في ليبيا ومؤخراً في شرق البحر المتوسط.
وشهدت العلاقات الثنائية كل أنواع المواجهات على مختلف المستويات الرسمية وغير الرسمية، من تبادل الكلمات القاسية إلى الدعاية الإعلامية.
وتمسكت أنقرة بموقفها الداعم للرئيس المنتخب بشكل ديمقراطي وأنه لا يمكن الإطاحة به بانقلاب عسكري، وأعربت مراراً عن انتقادها للسيسي وداعميه، بما في ذلك الدول الغربية وبعض خصومها في منطقة الخليج.
ومع ذلك، ظهرت مؤخراً إشارات من كلا البلدين توحي بمصالحة محتملة بينهما، لا سيما بسبب الديناميكيات المتغيرة في شرق البحر المتوسط والأزمة التركية اليونانية بشأن موارد الطاقة في المنطقة.
وأكد كل من الرئيس رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية مولود تشاوش أوغلو، أن وحدات المخابرات التركية والمصرية قد اجتمعت مؤخراً.
وفي مقابلة تلفزيونية أجراها مولود تشاوش أوغلو في سبتمبر الماضي قال: لا يمكن القول إن الأتراك يرفضون اللقاء مع المصريين، وأكد بالقول: "هناك اجتماعات على مستوى المخابرات".
وفي سياق اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة بين مصر واليونان الموقعة في القاهرة لترسيم حدود البلدين البحرية شرق المتوسط، صرح تشاوش أوغلو قائلاً: "علينا أن نكون واقعيين. من أجل التوصل إلى اتفاق مع مصر، يجب أن نحافظ على علاقات جيدة معهم".
وكان الرئيس رجب طيب أردوغان علّق على العلاقات التركية المصرية في سياق اتفاق القاهرة مع أثينا أيضاً، وقال: "لا توجد عقبات أمام الاجتماعات على مستوى الاستخبارات، لكن الصفقة بين اليونان ومصر تزعجنا. وهناك فرق بين العلاقات اليونانية المصرية وعلاقتنا مع مصر. يمكننا إجراء محادثات معهم".
ومن خلال هذه التصريحات يتضح أن الرئيس أشار بطريقة ما، إلى أن أنقرة والقاهرة تشتركان بروابط سياسية وتاريخية واستراتيجية أكثر عمقاً مقارنةً بالروابط مع أثينا.
في غضون ذلك، أشارت التقارير أيضاً إلى أن القاهرة أصدرت تحذيراً لوسائل الإعلام المحلية بعدم الترويج لمواقف مناهضة لتركيا خلال تغطيتها الإخبارية.
فلنستعرض بعضاً من إشارات أنقرة الإيجابية التي قد يكون لها عدة معانٍ في السياسة التركية الإقليمية وعلاقاتها بالعاصمة المصرية.
أولاً، في سياق نزاعات الطاقة في شرق المتوسط ، أعربت أنقرة عن استعدادها للتفاوض مع كل الأطراف المعنية في التوصل إلى رؤية مشتركة. وبالتالي، تُظهر تعليقات الجانب التركي حول القاهرة والاجتماعات على مستوى الاستخبارات أن مصر ليست استثناءً من هذا النهج، بالرغم من الاختلافات الرئيسية حول العديد من القضايا منذ عام 2013.
وأبدت تركيا استعدادها بشكل أو بآخر لتنحية كل الخلافات جانباً للوصول إلى قاعدة تفاهم مشتركة والمصالحة مع دول المنطقة حول قضية شرق البحر المتوسط.
ومصر دولة ذات ثقل هام في المنطقة وفي العالم العربي. مع تأكيدنا بالطبع على عدم تجاهل كيفية وصول السيسي إلى السلطة والانقلاب العسكري والقتلى وأحداث ميدان رابعة والاعتقالات السياسية التي تلت ذلك وموت محمد مرسي. لكن مصر إذا كانت على استعداد للمضي قدماً بأجندة إيجابية بشأن القضايا الإقليمية، فإن "هذه المبادرة يجب ألا تمر دون إستجابة من جانبنا" كما قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن.
بعبارة أخرى، تبدي أنقرة استعدادها لفتح صفحة جديدة مع القاهرة بشأن القضايا الإقليمية، والعمل المشترك على خريطة طريق حول كيفية تعامل البلدين بشكل استراتيجي مع القضايا الإقليمية. وسيكون تعزيز إشارات التقارب هذه مع نوع من الصفقات البحرية بين الدولتين، مفيداً للطرفين بل سيحسن هذا التقارب مواقف كل منهما في المنطقة.
وبينما تعتبر هذه الصفقة ذات نفع أكيد لأنقرة، إلا أنها تعني الكثير بالنسبة للقاهرة لأنها تمكّنها من إقامة علاقة براغماتية مع قوة إقليمية محورية، وتقوّض النفوذ السياسي لدول الخليج، مثل الإمارات العربية والسعودية. ومن شأن ذلك أن يفيد الاقتصاد المصري المضطرب ويعزز مكانة القاهرة السياسية في المنطقة.
ثانياً، يمكن أن تؤدي الخطوات التصالحية الصغيرة حول شرق البحر المتوسط، إلى التقارب في العلاقات الاقتصادية والسياسية في نهاية المطاف. وبالتأكيد فإن هذا التطبيع قد لا يكون سهلاً ولا يمكن تحقيقه على المدى القصير. لكن الأرضية السياسية الإقليمية تبدو خصبةً بما يكفي لتؤتي هذه المبادرة أُكلها.
كما أن الضعف الاقتصادي في مصر بالرغم من الدعم الإماراتي، يثير غضب الشعب المصري، ما أشعل موجة الاحتجاجات الأخيرة. ويمكن أن يؤدي تعزيز التجارة الثنائية بين مصر وتركيا إلى تنشيط التجارة والاستثمارات بين البلدين.
إلى جانب ذلك، تسعى الإمارات إلى أن تصبح قوة إقليمية كبيرة من خلال علاقاتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل. هذه العلاقات بحد ذاتها تؤدي إلى إثارة غضبٍ عام في مصر والعالم العربي كله. فإذا ما أعادت مصر بناء دورها الإقليمي التاريخي، واستعادت قوتها السياسية والاقتصادية وتصالحت مع تركيا، فيمكنها أيضاً تقليص نفوذ الإمارات المتصاعد عليها.
ثالثاً، يمكن لتركيا ومصر أن تلعبا دوراً هاماً في مكافحة الإرهاب في المنطقة، والمساعدة في استعادة الاستقرار السياسي في البلدان المتضررة من النزاعات.
وكما قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، سيكون من الصعب على تركيا غض النظر عن الخلافات الناجمة عن نهج القاهرة تجاه المعارضين السياسيين في البلاد، كما هو الحال في سوريا وليبيا. لكن العلاقة بين أنقرة وموسكو، القائمة على نهج عملي والتي تركز على مجالات المنفعة المتبادلة، يمكن أن تكون مثالاً يحتذى لنقطة انطلاق جيدة بين تركيا ومصر. وقد تكون المحادثات البناءة بين البلدين حول نزاع الطاقة في شرق المتوسط، هي نقطة الانطلاق الجيدة تلك، إذا تم رسم خارطة طريق فعالة.
وختاماً لا بد من التأكيد على أن الشعبين التركي والمصري يدركان بالعلاقات التاريخية والثقافية العميقة، ويريدان أن تكون أنقرة والقاهرة على وفاق دائمٍ، بصرف النظر عن الإشارات الإيجابية على المستوى السياسي ودلائل الاستعداد لإصلاح العلاقات الثنائية.
محمد تشليك، مدير التحرير في صحيفة ديلي صباح، قسم اللغة الإنكليزية.