عندما يتخاطب أهالي مدينة الموصل مع أهالي المدن السورية التي تحت الحماية التركية (عبر وسائل التواصل الاجتماعي) ويصف الموصليون لأهل إدلب عيشهم وسط الدمار وانتظار الخلاص من حكم المليشيات ويصف الإدلبيون لهم تفاصيل حياتهم المدنية وتفاؤلهم ويسألون الموصليين عن أحوالهم ويحدث ذلك تحت عنوان "المدن العربية السنية المدمرة" فإن في ذلك دلالات عميقة من النوع الذي لا يتكرر في قرون، منها:
إحساس هذه المدن التي تشترك في الخصم والخطر والمصير أنها تمثل جغرافيا سياسية جديدة بينها من المشتركات ما يكفي للعمل المشترك.
أن هذه المدن تبحث عن منظومة اجتماعية وسياسية تضمن لها الأمن والاستقرار بعد زوال دولها.
أن المنطقة تقف أمام ثقافة ومنظومة سياسية واجتماعية جديدة تختارها مجتمعاتها (هذه المرة) ولا يلقنها السياسيون.
أن وسائل التواصل المعاصرة اختزلت عاملي الجغرافيا والزمن وجعلت من التغيير الاجتماعي عملية ممكنة ضمن الإمكانيات المتواضعة للناس العاديين.
هذه المدن (بسلوكها هذا) تفكر بصوت مرتفع وتريد من الجهة التي وقع عليها اختيارها أن تستمع وأن تلفت نظرها إلى واقع جديد يتكون من حولها وهي تركيا.
عندما تقوم مؤسسة الموصل (منظمة مدنية غير حكومية وغير سياسية) بنقل رسائل أهالي المدن السورية حول ما يجري تحت الحماية التركية إلى أهل الموصل فهي تقول لهم بالدليل الواقعي: لا حقيقة للهواجس بين العرب والأتراك التي حذرت منها الثقافة المعاصرة ومن ذلك:
بقاء اللغة العربية لغة التعليم
بقاء المناهج الدراسية المحلية ودعم تركيا لها.
بقاء الإدارة المحلية في المدن السورية
بقاء قوانين القضاء المحلي
عودة الحياة المدنية والخدمات العامة
ما حدث في المدن السورية تحت الحماية التركية دشن صفحة جديدة من الطمأنينة الثقافية والاجتماعية ودل على أن الالتحام بين العرب والأتراك ينبغي أن يتمدد (إلى جانب الالتحام التاريخي والديني) ليشمل الجوانب الاجتماعية والإدارية التي تتماسك وتتفتت على أساسها الكتل السياسية المعاصرة.
الرسالة المدوية التي تبعث بها المدن العربية السنية المدمرة في العراق وسوريا إلى تركيا هي: منطقتنا تتنازعها منظومتان: منظومة اللادولة وحكم المليشيات ممثلة بإيران، ومنظومة الدولة وحكم القانون وتمثلها تركيا، وأن الإنسان في هذه المنطقة (بصرف النظر عن قوميته ودينه) الذي لا ينتمي إلى المنظومة الأولى فهو منتمٍ إلى الثانية بالضرورة، ينبني على هذا المفهوم مفهوم جديد هو "المواطنة الإقليمية". هذه المدن تجد أن تركيا تتمتع بقواسم مشتركة مع محيطها أوسع من القاسم المشترك التاريخي العثماني وأن عليها أن تتصرف على هذا الأساس.
هذا المفهوم العميق تفجر تحت ظروف شديدة ولم يتفجر تحت ظروف ثقافية وهي وبحاجة إلى قوالب ثقافية وفكرية تجعلها صالحة ليس لعملية النجاة فحسب وإنما لإعادة الحياة والصمود في المعارك الثقافية القادمة وما ينشأ في الشدة لا يصمد في الرخاء.
المفاهيم التي اختارها العرب والأتراك لكياناتهم السياسية بعد التفكك الإقليمي (زوال الدولة العثمانية) تطلبت جهداً كبيراً لترسيخها رغم سطحيتها (القومية)، ومفاهيم اليوم حضارية بحاجة إلى جهد ثقافي خاص لا يزال يواجه إهمالاً ثقافياً من العرب والأتراك وهما بحاجة إلى إرساء قواعد تعايش إقليمي ينسجم مع قيمهم من جهة ومع لغة العالم المعاصر من جهة ثانية ليتمكنوا من استدراك الخلل الأمني الإقليمي الذي وجدوا أنفسهم فيه بعد الحرب العالمية الأولى.
عادة ما تكون المشاريع تابعة للفكرة لكن الفكرة في التعايش العربي التركي الجديد متأخرة عن المشروع في أحسن الأحوال. المدن العربية التي تحت الحماية التركية هي (في مفهوم علوم الاجتماع) بيوت زجاجية استطاعت إنتاج محاصيل في ظروف مناخية قاسية وستطلبها الأماكن الأخرى (المهددة بنفس الظروف المناخية) إذا عرفت مواصفاتها المغرية وهو ما عملت مدينة كالموصل (على سبيل المثال) للوصول إليه في إدلب بطريقة شبكات التواصل الاجتماعي.
لا يزال تفاعل المدن العربية مع الحماية التركية يقع ضمن دائرة العواطف ووفاء الجار. هذه الحماية لا تقدم تفسيراً لسلوكها الذي يختلف عن سلوك (الجار الآخر) الذي يهدم المدن ويروع السكان رغم امتلاكها لمقومات ذلك التفسير، ورغم ما وفرته من خدمات كبيرة وأمن إلا أنها لم تبدد الحيرة الفكرية عند المجتمعات حول مستقبل منطقتهم التي هي أعمق من حيرة القرن الـ 20 بعد انهيار النظام الإقليمي (العثماني).
كانت المنظومة الاجتماعية الإقليمية السابقة (العثمانية) المكان الذي نشأ فيه مفهوم المواطنة وقوانين حقوق الأقليات لأول مرة في تاريخ الإنسانية وبنت عليه مجتمعاً يزيد على 80 قومية ودين شعر جميعهم بالمواطنة، كان ذلك عنصراً أمنياً استطاعت به أن تكون الأطول عمراً بين امبراطوريات الأرض وفي أشد مناطق العالم هشاشة.
تركيا المحاطة بكتل سياسية معادية وتنتهج نظاماً اجتماعياً منفتحاً أمام مهمة إقليمية أشد صعوبة من المنظومة العثمانية، هي قاذفة عملاقة لا تحميها أسراب من حولها. لقد أثبتت تركيا مهارة عالية في الالتفاف على الفخاخ والخروج من المآزق لكن هذه الفخاخ لن تتوقف وستترك في كل مرة بؤراً في محيطها الإقليمي تكون منطلقاً لفخاخ جديدة أكثر تعقيداً وأقرب إلى قلب جغرافيتها ويضيق بها الطوق الإقليمي.
لقد دلت الحماية التركية للمدن العربية على أن تركيا عائدة إلى المنطقة بنمط سياسي واجتماعي جديد ومحسوس وبرسالة مدنية غير منظورة تمنع حمايتها من أن تكون مساحة التحام اجتماعي إقليمي ترغب فيه المدن العربية المحتمية بها وفق صيغة يجيزها القانون الدولي. هذا الالتحام هو نفسه ورقة تركيا العربية للوقوف بوجه مشروع الأنظمة العربية الذي يهدف إلى إنهاء حمايتها للمدن العربية وإعادتها تحت مطرقة الأنظمة وإحياء الخلاف العربي التركي والعودة بعقارب التاريخ إلى عام 1915 ليبدأ القرن العشرين من جديد.
مراكز الفكر هي أدمغة الدول ومهمتها تحويل الأفكار الى مشاريع صالحة للتطبيق على الأرض وتقديمها إلى صانع القرار (نظام أعلى أسفل)، واختيار مشاريع قائمة على الأرض (من إنجاز الغير) وتطويرها فكرياً وإلحاقها يبرامج الدولة (نظام تحت أعلى).
مراكز الفكر والمؤسسات المتخصصة في تركيا أمام مسؤولية تاريخية لتقوم بدورها الذي أنشئت من أجله وتقديم أوراق إستراتيجية تخدم المصلحة الإقليمية للمجتمعين العربي والتركي. هذه المراكز مدعوة إلى تنسيق جاد مع المنظمات الفكرية للمجتمع المدني في المدن العربية غير الرسمية وغير السياسية بما يمكنها من قراءة صحيحة للواقع الإقليمي وإثراء مفهوم "منظومة الدولة وحكم القانون" الذي تنتمي إليها المدن العربية وتمثله تركيا.
الحماية التركية للمدن السورية والأخرى كالموصل (التي يشتاق أهلها إلى حماية على غرار إدلب تنقذهم من حكم المليشيات كحل وحيد) تحظى بالمسوغات الأدبية والتاريخية لكنها تفتقد ما يسمى "المسوغات القانونية الدولية" التي تتم تحت جناحها التدخلات الدولية وهي ورقة خصوم تركيا لمطالبتها بمغادرة المدن العربية التي تحميها وإجهاض فرصة المجتمعات العربية في إيجاد نظام إقليمي (خارج نطاق الأنظمة السياسية التي دمرتها) يضمن لها أمنها وكرامتها.
لا يكفي أن يتعايش العرب والأتراك على العواطف في عالم صعب. لابد من التفكير.
* الأمين العام لمؤسسة الموصل / منظمة مدنية غير حكومية غير سياسية مسجلة في الممكلة المتحدة