لا يمكن لأحد أن يضيئ شمعة محاباة للصحفيين الغربيين عندما يتعلق الأمر بأخلاقيات الإعلام.
وكمثال جلي، دعونا ننظر إلى "جيم جيراغتي" من صحيفة "ناشيونال ريفيو" الإلكترونية، وهو صحفي معروف في تركيا لأنه طالما نشر كتاباته منها، حيث كان يعيش كمغترب.
لقد عنون آخر مقالاته بعبارة "خلفية المساومات في أفعال جمال خاشقجي" وذلك بعد التأكيد الاعتيادي أن قتله كان وحشيا ومروعا، حذر "غيراغتي" النظام السعودي من أنه يتعين عليه تحمل "بعض النتائج قصيرة المدى" من الحكومة الأمريكية كي لا يقومون بـ "مغامرة طائشة" مثل هذه مرة أخرى.
لكن مهلا. إذا كنت تظن أن القيام بخنق شخص ما في مبنى القنصلية بينما هو يتلوى ويصرخ، ثم تمزيق جسده إلى قطع صغيرة بمنشار عظام يحضره خبير الطب الشرعي من الرياض إلى إسطنبول، إن كنت تظن أن كل هذا ما هو إلا "مغامرة" طائشة، فأنت بحاجة لمواصلة قراءة بقية المدونة.
لقد قام "جيم جيراغتي" بتلخيص مقال واشنطن بوست وهو بعنوان "الأشهر الأخيرة لجمال خاشقجي في المنفى" والبالغ عدد كلماته 5700 كلمة، في 147 كلمة مع اقتباسين قصيرين، ونشر "جيراغتي" الكلمات كما لو أنها جاءت على لسان الواشنطن بوست الشهيرة مستخدما أقواس الاقتباس:
"[...] أصبح من الواضح الآن أن الروايات حول عمل خاشقجي ككاتب والتي كتبت عنه فور وفاته لم تكن دقيقة تماماً. [...] فمنذ البدايات، كان جمال يمثل ذلك النوع الغريب من منتقدي النظام الذين يسعون للحصول على تمويل من النظام ذاته الذي ينتقدونه".
لعل "جيراغتي" يروج إلى الاعتقاد بأن الصحفي جمال الخاشقجي لم يتمكن من الاتفاق على المبلغ المطلوب مع النظام السعودي الذي كان يحاول ابتزازه. وهذا ما دفع الأشخاص الذين يمثلون النظام للاشتباك معه بقوة أفضت إلى موته.
ووفقًا لصحيفة الواشنطن بوست، فقد طلب الراحل خاشقجي من الحكومة السعودية أن توفر تمويلا جزئيا لمركزالبحوث الذي كان يأمل في تأسيسه في العاصمة واشنطن.
وقد كتب مراسلا واشنطن بوست "سعاد ميكنيت" و"غريغ ميلر" أنهما اطلعا على نسخ الرسائل التي كان خاشقجي قد أرسلها إلى السفير السعودي حول هذا الطلب.
لكن، متى تم إرسال الرسائل (إذا كانت هناك بالفعل رسائل مرسلة من قبله، أو إذا كان ما عاينه مراسلا واشنطن بوست رسائل حقيقية من خاشقجي)؟
لقد تم ذلك في سبتمبر 2017. أي بعد خمسة أشهر من تعيين محمد بن سلمان (مبس) ولياً للعهد.
ومتى بدأ "مبس" باعتقال أعمامه وأبناء أعمامه؟ لقد بدأ في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017.
إذا، كيف لخاشقجي أن يكون عرافا كي يتنبأ بما سيقدم عليه "مبس" وهو الذي قاد عدة إصلاحات ناجحة وحظي بإشادة دولية بخطواته نحو الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي في بلاده.
لم يكن "مبس" وقتها قد بدأ حملته الإرهابية بعد، ولم يكن بمقدور خاشقجي أو أي شخص آخر أن يتكهن بأن القصور السعودية والفنادق الفاخرة ستتحول في وقت قصير إلى معتقلات ذات أقبية تعذيب.
نعم، لقد كان جمال خاشقجي ينتقد النظام ويطالب بمزيد من الإصلاحات في الساحة السياسية. لكنه لم يكن عدوا للمملكة. دعونا نفترض أنه سعى للحصول على دعم مالي من الحكومة السعودية أو (كما تدعي مقالة الواشنطن بوست) من مؤسسة قطر الدولية التي تدعم تعليم اللغة العربية في الولايات المتحدة. هل هذا يجعل "خاشقجي يبدو صحفيا غير مستقل أو يبدو كعميل لبلد آخر أيا كان، وإن لم يكن عدوا للمملكة العربية السعودية، فهل من الممكن أن نؤكد أنه محرضا عليها"؟
مؤسسة قطر هي منظمة ثقافية وسعيها لدعم مشروع تعليمي لن يجعل خاشقجي "عميلا". وقد أدرك العالم كله أن خاشقجي كان يلعب دورًا قياديًا في تعزيز الفرص التعليمية للعديد من الصحفيين العرب الشباب في العديد من الدول العربية وكذلك في الولايات المتحدة.
وما معنى أن ننظر إليه إذا، بأنه "ليس بصحفي مستقل" في عالم "جيم جيراغتي"؟ هل لا زلنا نتعجب أن يسمي "جيم جيراغتي" الخنق حتى الموت ومنشار العظام بـ"مغامرة طائشة".
إذا كان "جيراغتي" قد أمضى وقته في إسطنبول يدرس التقاليد العثمانية والعربية لشخصيات حكومية معارضة، فمؤكد أنه يعرف أن بوسع من يعارض سلطانا عثمانيا، أو شيخ قبيلة عربية، أو حاكمًا مصريًا، أن يستمر في الحصول على راتب من الدولة.
كذلك أرسل السلطان العثماني كبير وزرائه مدحت باشا إلى المنفى في سوريا بعد أن انقلب الباشا على حكمه. كما هرب العديد من الشعراء والكتاب المسرحيين وأساتذة الجامعات إلى باريس أو لندن خلال المرحلة الدستورية الثانية من الإمبراطورية العثمانية و بحوذتهم دفتر الشيكات الذي وضعته الحكومة في جيوبهم.
كنا نظن أن إدوارد سعيد قد غرز سلاحه في قلب الاستشراق! فهل كنا مخطئين؟ يبدو أن هذه الحقيقة لن تتغير أبدًا، "أن تكون مستشرقا لمرة واحدة، فإنك ستبقى دائمًا مستشرقا" وستؤكد في كل مرة مقولة:
"احكم على الجميع بأسلوب نمطي ينطبق مع موقفك الاستعماري".
دعونا إذاً نراجع الحقائق حول مقتل جمال خاشقجي مرة أخرى.
في 2 أكتوبر 2018، دخل الرجل إلى القنصلية العامة للمملكة العربية السعودية في إسطنبول. ولم يخرج. كان يريد الحصول على بعض الأوراق اللازمة لزواجه القادم، وكانت خطيبته تنتظره في الخارج.
وحين تأخر اتصلت بالشرطة، ثم علم العالم كله أنه قتل داخل القنصلية.
حاولت السلطات السعودية إنكار الجريمة لمدة أسبوع تقريبا. بعد ذلك بأربعة أيام، قام بعض الصحفيين في رويترز بجولة في القنصلية المكونة من ستة طوابق.
وقد فتح قنصل المملكة العربية السعودية ردهات القنصلية ومكاتبها وحتى أدراجها، أمام كاميراتهم في محاولة لإظهار أن الكاتب السعودي البارز جمال خاشقجي لم يكن في المبنى وأبلغ المراسلين بأن الحديث عن اختطافه لا أساس له.
لكن المسؤولين الأتراك قالوا آنذاك إنهم يعتقدون أن خاشقجي لا يزال داخل القنصلية، وأن النيابة بدأت تحقيقاً في اختفائه.
أصرت المملكة العربية السعودية طوال أسبوع على أنه غادر القنصلية يوم الثلاثاء بعد استكمال أوراقه. ولم تسمح هذه السلطات للشرطة ولا للادعاء العام بدخول المبنى لمدة أسبوعين.
وكان الرئيس أردوغان قد تحدث عن القضية لأول مرة بعد مرور 20 يومًا، وأعلن أن السلطات التركية قد حصلت على معلومات كافية حول عملية القتل. وقال أردوغان "إن لعبة ما تجري لحماية شخص متورط في القتل."
وقال إنه تبادل المعلومات مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال لقائه معهما. ووفقاً لتقارير إعلامية، فقد وصل فريق من الخبراء مؤلف من 15 شخصًا إلى إسطنبول قبيل جريمة القتل، معظمهم من خبراء الطب الشرعي ورجال الشرطة المخضرمين (أحدهم معه منشار للعظام) لتنظيف المبنى والتخلص من الجثة.
تم تفسير تصريحات أردوغان تلك على أنها تشير إلى معلومات عن تورط محتمل لولي العهد السعودي "مبس" في جريمة القتل، قام على أثرها السعوديون بتغيير روايتهم واعترفوا بالقتل المتعمد، لكنهم زعموا أن المسؤولين السعوديين الخمسة عشر الذين ذهبوا إلى إسطنبول تصرفوا دون سلطة ولي العهد أو معرفته بالأمر.
وزعم السعوديون أن فريق القتل يخضع للتحقيق في المملكة العربية السعودية، إلى جانب ثلاثة من كبار الشخصيات، بمن فيهم نائب رئيس المخابرات.
في هذه الأثناء، ظل بعض المعجبين بولي العهد يصرحون في وسائل الإعلام الأمريكية، إنه من غير المعقول أن يكون هذا الأمير الفاتن مسؤولاً عن هذه الهمجية. كذلك أصر الرئيس ترامب على أنه لم يصل إلى استنتاجات مؤكدة حول ما حدث.
وأصدر مجلس الشيوخ الأمريكي قرارا بعد شهرين، أدان فيه "مبس" لقتله الصحفي جمال خاشقجي، مما زاد من الضغوط على ترامب لمعرفة ما حدث بالضبط. وعلى الرغم من حقيقة أن الرئيس قد انحاز إلى الأمير، فقد ذكرت عدة وكالات إخبارية في الأسبوع التالي أن وكالة الاستخبارات المركزية قد حسمت الأمر بإعلان مسؤولية ولي العهد عن اغتيال الصحفي.
وذكرت صحيفة واشنطن بوست وصحيفة نيويورك تايمز أن مسؤولي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، كانوا على ثقة كبيرة في استنتاجهم الذي يستند إلى مصادر متعددة للمخابرات.
ثم بدأت جوقات التشكيك في مصداقية تقرير وكالة الاستخبارات المركزية تصدح. حيث قال تركي الفيصل، الرئيس السابق للمخابرات السعودية (عم ولي العهد): "لقد ثبت أن وكالة المخابرات الأمريكية كانت خاطئة من قبل"، الأمر الذي يعزز احتمالية خطئها مرة أخرى. كذلك كتب "جيم جيراغتي": "يبدو خاشقجي أقل شبهاً بصحفي مستقل وأكثر شبهاً بعميل لبلد آخر، إن لم يكن عدواً للمملكة العربية السعودية، فإنه بالتأكيد محرض عليها."
وقال وزير الخارجية السعودي عادل الجبير (الذي أقاله الملك في وقت لاحق) إن الدعوات إلى محاسبة "مبس" على تورطه بجريمة القتل هي "خط أحمر".
لماذا حاول هؤلاء الأشخاص عديمو المصداقية حماية ملك السعودية المستقبلي الفاتن الإصلاحي؟ بالتأكيد ليس لأنه دمية دب محبوبة بابتسامة مشرقة، ويسمح للسعوديات بقيادة السيارات على الطرق العامة.
كل هذا وربما أكثر لأنه على استعداد للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولكونه "أفضل صديق" لجارد كوشنر وزوجته (ابنة ترامب) إيفانكا، أو كما قالت وسائل الإعلام الإسرائيلية، كونه العربي الذي كان اليهود ينتظرونه آخر 70 سنة. هم بالكاد ظفروا به الآن ولن تقوم الولايات المتحدة وإسرائيل بإلقاء هذا الرجل إلى الأسود ليفترسوه.
والسؤال المطروح هنا، هل يمكن لمن يقرأ عبارة أن خاشقجي يبدو "أقل شبهاً بصحفي مستقل" في ضوء هذه الحقائق، أن يستنتج أن الرجل كان "يعيش بالسيف"؟ يا …. جيم؟