بدأ الانقلابي خليفة حفتر في 4 أبريل 2019 حملةً مدعومةً مالياً وعسكرياً للاستيلاء على العاصمة الليبية طرابلس، وإطاحة حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً بقيادة فايز السراج. ونجحت قواته في البداية في محاصرة العاصمة الليبية والسيطرة على العديد من المدن غرب البلاد. وقبل شهرين فقط، وصل المرتزقة الروس على بعد عدة كيلومترات من طرابلس، وتورطوا في حرب مدنية ضد الجيش الليبي. وقامت صواريخ وطائرات مسيرة صينية الصنع مقدمة لحفتر من الإمارات العربية المتحدة، باستهداف البنية التحتية المدنية وبعض المواقع الحيوية في المناطق التي تسيطر عليها قوات حفتر. مما اضطر بعض المدن إلى تحويل ولائها إلى جيش حفتر وخضوعها له نتيجة لذلك.
وكان التحالف الداعم لخليفة حفتر والمؤلف من الإمارات ومصر وفرنسا والسعودية، واثقاً من إحراز نصر سريع يمكن أن يضمن سيطرة "الرجل القوي" -كما أطلقوا عليه- على ليبيا، حيث لعب المرتزقة الروس والسودانيون والتشاديون دوراً حيوياً في الخطوط الأمامية لقوات حفتر.
وفي أواخر عام 2019 غيّرت اتفاقيتان رئيسيتان بين حكومة الوفاق الوطني وتركيا مسار الحرب الأهلية في ليبيا، حيث وقعت الحكومة الشرعية اتفاقيات تعاون عسكري وحدود بحرية مع أنقرة. وبالرغم من ضعف موقف حكومة الوفاق الوطني ضد التحالف المؤيد لحفتر، قررت أنقرة العمل مع الحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس. وتمكن الدعم العسكري التركي لهذه الحكومة وخاصة الطائرات المسيرة، من تغيير ميزان القوى على الأرض. ومنذ يناير استمرت التكنولوجيا المتقدمة للمُسيّرات التركية اضافة إلى المستشارين العسكريين في عكس مكاسب جيش حفتر. وفي الأسابيع الأخيرة سيطرت حكومة الوفاق الوطني بمساعدة تركية، على عدة مناطق وبلدات، كانت قاعدة "الوطية" الجوية القريبة من الحدود التونسية الأهم بينها. كما دمرت المسيرات التركية من طراز "TB2" العديد من أنظمة الدفاع الجوي "بانتسير" الروسية الصنع. وبالنتيجة أسفرت هجمات المسيرات التركية الفعالة الداعمة لحكومة الوفاق الوطني عن إحباط تحالف حفتر، وأدت إلى تراجع المقاتلين والمرتزقة الأجانب بشكل خاص.
لقد جاء استيلاء حكومة الوفاق على قاعدة "الوطية" الجوية نقطة تحول حاسمة في القتال كونها قريبة من الحدود التونسية، وتمثل أحد الأركان الاستراتيجية الرئيسية في هجوم حفتر على طرابلس ونجاح حملته بأكملها في السيطرة على الجزء الغربي من ليبيا. وبعد سقوط القاعدة الجوية، تمكنت حكومة الوفاق الوطني من بسط سيطرتها على معسكرات "اليرموك" و"الصواريخ" و"حمزة" جنوب العاصمة. وقبل ذلك كان المرتزقة الروس من مجموعة "واغنر" يسيطرون على قاعدة اليرموك لكنهم اضطروا فيما بعد إلى مغادرتها إلى قاعدة "بني وليد"، قبل أن يتقهقروا إلى قاعدة "الجفرة" الجوية وبدؤوا بالانسحاب التدريجي من الأجزاء الجنوبية الغربية إلى الأجزاء الجنوبية والشرقية من البلاد. وقد أعلنت حكومة الوفاق الوطني وقفًا لإطلاق النار لمدة يومين للسماح بهذا الانسحاب.
إن بسط جيش الوفاق الوطني سيطرته على المنشآت العسكرية الهامة وانسحاب المرتزقة الروس، يمثل ضربة كبيرة لحفتر والتحالف الداعم له. وقد تم بالفعل توجيه بعض الانتقادات له في بنغازي وطبرق. كما عبر "عقيلة صالح" رئيس مجلس النواب في طبرق، عن انتقاده لخطة حفتر، معلناً مبادرة سياسية لتفريق أحادي الجانب رداً على هذه الانتكاسات في أرض المعركة. واليوم يشهد العالم انهيار التحالف الذي يدعم حفتر وجيشه، الذين يفكرون ربما بسيناريوهات بديلة لمستقبل مغامرتهم في ليبيا.
كما حدث تطور هام آخر تمثل بإعلان الجنرال الأمريكي "ستيفن تاونسند" قائد "أفريكوم" حيث قال:"أدخلت روسيا طائرات مقاتلة إلى ليبيا من أجل قلب الموازين في الحرب الأهلية في البلاد، وهي خطوة وصفتها القيادة بأنها تمثل تهديداً أمنياً محتملاً للناتو". وتمتلك المقاتلات الروسية من الجيل الرابع القدرة على تغيير مستقبل القتال في ليبيا. وفي حين تنفي السلطات الروسية تورطها المباشر في ليبيا، تناقض تقارير المخابرات الميدانية هذه الرواية. وإذا حصلت روسيا على قواعد في ليبيا وأدخلت منظومة أسلحة بعيدة المدى، فستشكل خطراً أمنياً كبيراً على الجناح الجنوبي للناتو. وقد يؤدي ذلك أيضاً إلى زيادة تغييرات تولي السلطة في البلدان الإفريقية. وقد يتحول نفوذ روسيا في ليبيا إلى ورقة مساومة تستخدمها موسكو لتعزيز موقعها في شرق البحر المتوسط في ضوء خططها لتوسيع نفوذها في إفريقيا. وبكل الأحوال يبدو أن روسيا من خلال هذه الخطوات الإضافية، تختبر ردود الأفعال أو "تجس النبض" كما يقال.
ومع تعاظم الوجود الروسي في الحرب الأهلية الليبية، وإذا لم يتم تحريك الجمود الحاصل في العملية الدبلوماسية في الأسابيع المقبلة، قد تتحول ليبيا إلى مكان أكثر خطورة، كما هو الحال في سوريا. ومن المؤكد الآن أن الحرب الأهلية الليبية تدخل منعطفاً حرجاً، فإذا تحركت القوى العظمى نحو تنافس على السلطة واعتبرت ليبيا مكاناً للصراع بالوكالة، فقد يؤدي هذا إلى موجة جديدة من التصعيد. كما يتعين على مصر وتونس الواقعتين على جانبي ليبيا إضافة إلى الأطراف الأجنبية المشاركة في الحرب القيام بتحمل مسؤولياتهم الواضحة. ويجب أن تكون الخطوة الأولى في عملية الانتقال السياسي هذه إرسال حفتر وأبنائه إلى منفى مريح. كما يجب على الولايات المتحدة والقوى الأوروبية أيضاً كبح الطموحات العدوانية لحاكم الإمارات محمد بن زايد للحيلولة دون المزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة.
ومن شأن هذه الخطوات إذا تمت أن تمهد الطريق لعملية سياسية جديدة في ليبيا. وإلا فإن تصعيداً إضافياً مدمراً للنزاع في ليبيا سيقع لا محالة ولن يكون بالإمكان منعه.