شهدت مدينة إدلب شمال غرب سوريا، وهي بمثابة جيب تسيطر عليه المعارضة، قصفاً عشوائياً من قبل النظام السوري والقوات الروسية في الأسابيع القليلة الماضية. وقد حلّت كارثة إنسانية بمعظم المدنيين، في المدينة وماحولها. يموت عشرات المدنيين الأبرياء كل يوم تحت أنقاض المباني والأسواق والمستشفيات والمدارس. ولسوء الحظ ، ظل العالم صامتاً تجاه الكارثة الإنسانية التي بدأت آثارها تتكشف في إدلب. لقد غادر أكثر المدنيين منازلهم للبحث عن ملجأ على طول الحدود مع تركيا. ووفقاً لاتفاقيات أستانا وسوتشي فإن مسؤولية إيقاف عنف النظام في مناطق التصعيد، تقع على عاتق روسيا. لكن روسيا للأسف، هي العقل المدبر للتدمير المستمر هناك، ولديها حل مثالي لما يجري هو نموذج غروزني. تحاول روسيا تطبيق نموذج غروزني، لإنهاء الحرب الأهلية المستمرة في الجزء الغربي من سوريا.
فيما واصل المستشارون الروس الإشارة إلى النموذج الشيشاني في جميع اللقاءات تقريباً، الرسمية منها أو غير الرسمية، عندما كانوا يسألون عن خططهم لمعالجة الأزمة المستمرة في سوريا.
يقوم الجانب الروسي بالتعاون مع النظام السوري، بتنفيذ النسخة السورية من نموذج غروزني في إدلب تباعاً. ويدعم رمضان قاديروف، الزعيم الشيشاني الموالي لروسيا، السياسات الروسية الرسمية في سوريا.
سلّطت السلطات الروسية، في أعقاب المشاركة واسعة النطاق لموسكو، الأضواء بكثافةٍ على الجزء المشرق من "قصة غروزني"، والذي يتعلق فقط بإعادة إعمار المدينة والاستقرار الذي ساد فيها. إذ في عام 2003، كانت العاصمة الشيشانية غروزني هي المدينة الأكثر دماراً على وجه الأرض. وبلغ مستوى الخراب والأزمات الإنسانية التي حلت فيها في ذلك الوقت، حداً أبعد من جهود تحقيق الاستقرار. لكن روسيا، استثمرت في إعادة إعمار المدينة، بعد قمع الجماعات المعارضة فيها.
كانت المقاربة الروسية لمعالجة القضية الشيشانية في أوائل العقد الأول من القرن العشرين إحدى قصص نجاح الرئيس فلاديمير بوتين. كذلك فإن تورط روسيا في سوريا الذي أدى إلى تغيير مسار الحرب الأهلية فيها، ساهم أيضا في إعادة إظهار موسكو وبوتين كقوة دبلوماسية عظمى.
أظهرت روسيا نسختها من "الاستقرار" و "محاربة التطرف" في سوريا، والتي لا تشبه ما قامت به الولايات المتحدة وحلفائها من تدخلات "ليبرالية"، بعد الحرب الباردة. لم يكن الجانب المظلم لنموذج غروزني حاضراً بقوة في دوائر السياسة العالمية. فالمسؤولون الروس أجازوا قصفهم للمدينة، كجزء من كفاحهم ضد التطرف.
ساعد المناخ الذي ساد بعد أحداث 11 سبتمبر، والخطاب العام حول "الحرب العالمية على الإرهاب"، السلطات الروسية على التعامل مع القضية الشيشانية بشكل أكثر عدوانية. مع حرص المسؤولين الروس على إثبات أن نموذجهم أكثر فعالية من التدخلات الليبرالية أو التدخلات الإنسانية في التسعينيات.
نموذج غروزني ليس هو الخيار المناسب لإعادة إعمار مدينة إدلب. إنما هو رؤية روسية للتعامل مع المعارضة المسلحة في سوريا. حيث يتضمن النموذج الروسي في الحالة السورية تطبيق اتفاق سوتشي القاضي بتجميع كافة الجماعات المعارضة والفصائل المسلحة في إدلب، ومن ثم هدم المدينة بأكملها بالقصف العشوائي. بالرغم من أن النظام السوري هو من نفذ القصف العشوائي على إدلب ، لكنه قام بذلك بالتنسيق والتعاون الوثيق مع السلطات الروسية.
المعارضة والمتطرفون ليسوا وحدهم الذين يموتون تحت أنقاض الدمار العشوائي، بل يموت المدنيون أيضاً، الذين فروا من هجمات النظام في بقية أنحاء البلاد. وهذا النهج يكلف الكثير من الأرواح البشرية، بالإضافة إلى الدمار المادي.
تقوم قوات النظام من خلال معاقبة إدلب بهذا الشكل العشوائي، بنشر بذور تطرف جديد قد ينمو ويزعزع استقرار البلاد على المدى المتوسط والطويل. كذلك يستخدم النظام القسوة في قصف إدلب، ليجعلها عبرةً للمناطق أو المدن التي قد تفكر في الانتفاضة.
قصف إدلب واحد من أقسى الأمثلة على العقاب الجماعي، ويتم بدلاً من محاولة تحقيق الاستقرار. إن مخرجات هذا القصف هي مصدر قلق شديد لتركيا والدول المجاورة. فكلنا يعلم أن النهج الأمريكي لقمع المعارضة في مدينة الفلوجة العراقية، قد أفضى إلى ظهور داعش.
ولا تزال مدينة الموصل عرضة لتأثير الجماعات المتطرفة، بعد الصراع الدامي ضد داعش. تشعر تركيا بالقلق حيال القضايا الإنسانية هناك، بالإضافة إلى الاتجاه المحتمل لمزيد من التطرف المتوقع حدوثه، بسبب القتل العشوائي للمدنيين في شمال غرب سوريا.
لم يكن نموذج غروزني هو ما وقّعت عليه تركيا في عمليتي أستانا وسوتشي. وقد حاولت تركيا بدلاً من ذلك توفير حل أكثر إنسانية، من شأنه أن يحقق الاستقرار في كل سوريا. لكن روسيا لم تبدِ مرونة في طريقة تعاملها مع المعارضة السورية، تعتبر روسيا كل من يعيش في منطقة إدلب إرهابياً، ويدعمون النظام السوري في القصف العشوائي على المدينة وما حولها، وهدم البنى التحتية فيها، حيث يتعمدون استهداف المستشفيات والمدارس والأسواق والمباني السكنية، دون مراعاة الخسائر البشرية. وبذلك تضيع روسيا الفرصة على نفسها كي تتحول إلى وسيط في عملية سلام عادل ودائم في سوريا، وفي أي مكان آخر من العالم. كما يصبح التعاون مع موسكو في القضايا الإنسانية أكثر صعوبة وتكلفة بالنسبة لتركيا والجهات الفاعلة الأخرى.
قد تكون روسيا والنظام السوري قويتين بما يكفي لتنفيذ الجزء الأول من نموذج غروزني، أي تدمير سوريا؛ لكن يتعين عليهما أيضاً خلق قبول لما يقومان به، وكذلك إعادة بناء البلد. ولا يبدو أنهما مستعدين لتطبيق الجانب الإيجابي من نموذج غروزني. وهذه المسألة لا تثير قلق تركيا فحسب، بل قلق البلدان المجاورة أيضاً، كالعراق ولبنان والأردن، وكذلك أوروبا.