شكلت خلافات أنقرة مع واشنطن بشأن شراء نظام الدفاع الجوي الروسي إس-400، جزءاً هاماً من قضايا السياسة الخارجية التركية في الأشهر القليلة الماضية. معظم الجهات الفاعلة في تركيا تقريباً، بدءاً من خبراء السياسة الخارجية وخبراء الاقتصاد والمتخصصين في الأمن، وصولاً إلى خبراء الطاقة والجغرافيا السياسية، ناقشوا تداعيات هذه القضية على تركيا وعلى العلاقات التركية الأمريكية. حتى الشعب التركي، في تواصله الاجتماعي اليومي وعلاقاته العادية، راح يناقش الخصائص التقنية والمزايا والعيوب المتعلقة بصواريخ إس-400. الأمر الذي اعتبر غير اعتيادياً لمناقشات تخصصية تتطلب بعض الخبرة الفنية وتتعلق بالأمن والدفاع.
ووفقاً لمناقشات واستبيانات واسعة النطاق أجريت في وسائل الإعلام وغيرها من المنصات العامة، تبين أن غالبية الشعب التركي، يؤيد شراء تركيا لمنظومة صواريخ إس-400 ونشرها.
الشعب التركي مقتنع بشكلٍ أو بآخر بضرورة وجود نظام للدفاع الجوي في تركيا. وأكثر ما يثير حنقهم هو عدم رغبة حلفاء تركيا في حلف شمال الأطلسي اقتناء مثل هذا النظام الاستراتيجي الدفاعي ليكون جاهزاً عند الحاجة إليه. لكن هذا الموقف لا يعني بالضرورة الثقة العمياء بروسيا وتقديم الدعم غير المشروط لها، سواء بشأن هذه القضية على وجه الخصوص أوغيرها من القضايا المتعلقة بالأمن.
الولايات المتحدة التي اعتمدت المعاملة غير العادلة لتركيا، ومارست عليها الضغط الدبلوماسي غير الضروري، جعلت التأييد الشعبي يتزايد تجاه التعامل مع الجانب الروسي، بالرغم من الشقاق بين تركيا وروسيا على جبهات أخرى كثيرة. وبذلك فإن واشنطن التي تسيئ إدارة علاقاتها مع تركيا، والأمثلة على ذلك كثيرة في العديد من القضايا، وخصوصاً في السنوات القليلة الماضية، تواصل فقدان مصداقيتها لدى الشعب التركي.
أظهرت دراسة استقصائية حول السياسة الخارجية التركية، أجراها مركز جامعة "قدير خاص" للدراسات التركية، أن 81.3 في المائة من المشاركين، يرون أن الولايات المتحدة تشكل تهديداً لتركيا. وبذلك فإن الولايات المتحدة تصدرت احتمالات التهديد الأكبر عند الشعب التركي. كما توافقت آراء الأتراك من جميع الأطياف السياسية، بشأن موقف واشنطن العدواني تجاه البلاد.
في حين أن أكثر من ربع المشاركين بالإحصاء، اعتبروا روسيا شريكاً استراتيجياً هاماً لتركيا. لقد أشار الاستبيان إلى أن موقف الشعب التركي تجاه صفقة صواريخ إس-400 مع روسيا بدا إيجابياً بشكل مدهش، مما يدل على أن روسيا لم تحظَ بالمال والمزايا الاستراتيجية فحسب، لكنها فازت أيضاً بدعم الشعب التركي وتأييد مصلحته.
هذا التحول في موقف الشعب التركي، يجب أن يؤخذ على محمل الجد، لأنه وبغض النظر عن الحكومة التي ستتولى السلطة في تركيا، فإن الموقف الشعبي السلبي ضد واشنطن، سيستمر على المدى القصير والمتوسط.
واشنطن ما تزال مستمرة في مساعيها لفرض عقوبات جديدة على تركيا، وهي تدرس تطبيق القانون الخاص بمواجهة "خصوم أمريكا عن طريق العقوبات"، على تركيا من أجل زيادة الضغط عليها أكثر بشأن قضية إس-400. لكن العقوبات الأمريكية الإضافية سيكون لها تأثير هامشي محدود على منع البلاد من المضي قدماً في مساعيها. مثل هذه العقوبات لن تؤدي إلا إلى زيادة تحفيز الشعب التركي وصنّاع السياسة الأتراك ضد واشنطن.
وبعكس آراء بعض المحللين في واشنطن، فإن الرئيس أردوغان وحزبه ليسا العنصر الرئيسي في التوتر الأمريكي التركي الحاصل. من جهة أخرى، فإن الرئيس أردوغان، يتمتع بقدرة فائقة على تغيير هذه الصورة القاتمة، إذا ما قررت واشنطن اتخاذ بعض الخطوات البنّاءة.
وكغيرها من النزاعات الدبلوماسية الأخرى، فسَّر بعض المحللين في تركيا هذا الخلاف بين اثنين من أعضاء الناتو، على أنه تغيير هيكلي في طبيعة العلاقات والتعاون الأمني داخل الحلف، واعتبر البعض الآخر هذه القضية واحدة فقط، من عناصر التوتر، المدرجة في قائمة الخلافات التي تشمل دعم الولايات المتحدة المستمر لتنظيم "ي ب ك" الإرهابي في سوريا، وكذلك تهاون أمريكا المقصود، في التعامل مع قضية جماعة "غولن" الإرهابية.
مع توقعات البعض أن تذعن تركيا وتتراجع عن صفقة الصواريخ الروسية، إلا أن الغالبية العظمى من المحللين، تؤيد إصرار تركيا على هذه القضية بسبب مخاوفها المتعلقة بالأمن القومي، خصوصاً في مثل هذا الوسط غير المستقر. بالنسبة لتركيا فإن عدالة حججها وموقفها من قضايا إس-400 وتنظيم "ي ب ك" وجماعة "غولن، ليست محط تساؤل، ولكن ما الذي يجب القيام به دبلوماسياً في ظل علاقات القوة غير المتماثلة؟
بالرغم من عدم التكافؤ، يتعين على السلطات التركية أن تناقش هذه القضايا الثلاث، باعتبارها مخاوف أمنية وطنية أساسية. كما أن غالبية المواطنين الأتراك، يعتقدون أن البقاء الوطني لتركيا يحتم على السلطات التركية الإصرار على تلك القضايا. وهذا التصور لن يتغير على المدى المنظور، لا من جانب صناع السياسة الأتراك ولا من جانب الشعب التركي.
من ناحية أخرى، فإن الخطوات التصالحية من جانب واشنطن تجاه تركيا، قد يكون لها تأثير إيجابي كبير في تغيير نمط العلاقات الإشكالية بين الطرفين. ربما يكون يوم 15 يوليو، الذي يصادف ذكرى محاولة الانقلاب الفاشلة التي قامت بها جماعة "غولن" الارهابية، فرصة لواشنطن لإظهار بعض الإشارات الملموسة على أرض الواقع، للسير نحو تطبيع العلاقات التركية الأمريكية. وهذا التطبيع قد لا يحدث بسرعة، ولكنه قد يؤدي إلى تسارع بناء جديد.