فُسرت إقالة الرئيس التونسي قيس سعيّد لرئيس وزراء البلاد على أنها انقلاب. والطريقة الوحيدة لعكس هذا الفهم هي إرجاع سعيّد السلطة الدستورية للبرلمان.
أدى قرار الرئيس التونسي قيس سعيد بإقالة رئيس وزراء البلاد والحكومة وتعليق البرلمان وحصانة أعضائه، الذي أصدره في بلد كان يُعتقد أنه الحالة الوحيدة الناجحة للثورات العربية والديمقراطية الوحيدة الباقية في العالم العربي، إلى واحدة من أكبر الأزمات السياسية منذ ثورة 2011. واعتبر القرار بمثابة انقلاب صريح، وأدانه معظم المراقبين لأنه الأول من نوعه الذي يعلق فيه رئيس منتخب أنشطة جميع مؤسسات الدولة الأساسية ويتولى بنفسه جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
ولكن لماذا الآن؟
يمكن طرح العديد من الأسئلة حول هذا القرار ولكن علينا أن نركز أولاً على توقيته.. ومن ثم لماذا اتخذ الرئيس هذه الخطوة ومن الذي دفعه لذلك؟
بادئ ذي بدء، أساء بعض الفاعلين المحليين وداعميهم الخارجيين استخدام الاحتجاجات الأخيرة ضد الأوضاع الوبائية والمشاكل الاقتصادية المستمرة في البلاد للإطاحة بالحكومة الائتلافية المدعومة من النهضة.
صحيح أن هناك مشاكل سياسية واقتصادية خطيرة. لكن ذلك لا يستلزم الإطاحة بالحكومة وتعليق عمل البرلمان. لذلك، من السهل الاستدلال على أن الرئيس وحلفاءه في البيروقراطية قد استغلوا الضعف الداخلي من أجل ترسيخ نظام استبدادي وخصوصاً بعد أن استهدف غالبية المتظاهرين حزب النهضة السياسي الأكثر شعبية، وهاجموا مكاتبه في مدن مختلفة.
والهدف الحقيقي وراء هذا القرار ليس رئيس الوزراء وحكومته، بل حزب النهضة نفسه. لذلك استنكر رئيس مجلس النواب وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي قرار الرئيس بالإطاحة بالحكومة، واصفاً إياه بـ "الانقلاب على الثورة والدستور" وأضاف أن "الشعب التونسي سيدافع عن الثورة".
ومنذ بدأت حركة النهضة تقاسم السلطة السياسية مع بعض الأحزاب الأخرى، تعمق الاستقطاب داخل النخبة التونسية المنقسمة بين المحافظين والعلمانيين بالرغم من أن حركة النهضة المحافظة تُعرف بأنها من أكثر الحركات الإسلامية اعتدالاً في العالم العربي، ويُعرف العلمانيون بأنهم الأكثر تطرفاً.
وعندما حاولت دوائر السلطة المحلية والإقليمية إقصاء النهضة عن السياسة، ندد زعيم الحزب راشد الغنوشي بالمحافظة من أجل التصالح مع المعسكر العلماني. لكن حزب النهضة سرعان ما تنازل عن السلطة بعد اغتيال زعيم علماني معارض وما تلاه من احتجاجات في الشوارع عام 2013، لتحل محله حكومة تكنوقراطية.
علاوة على ذلك، تعهد الحزب وزعيمه بإبقاء الشريعة الإسلامية خارج الدستور الجديد وانضموا إلى المعسكر العلماني في أول انتخابات رئاسية حرة في عام 2014، لصبح الباجي قائد السبسي رئيساً بعد ذلك. وبالرغم من تصويت حزب النهضة لسعيّد في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2019، وبالرغم من كل جهود المصالحة لم يعترف المعسكر العلماني بحركة النهضة في تقاسم السلطة.
فهل كانت ديمقراطية تونس مختلة حقاً؟
أظهرت شخصية راشد الغنوشي ومنظوره السياسي أن المشكلة ليست في أيديولوجية بعض الأحزاب السياسية، بل في سير الديمقراطية نفسها وفي ازدواجية القوى الغربية ووكلائها الإقليميين ممن يمثلون الخط السياسي الاستبدادي مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر السيسي والانقلابي خليفة حفتر، الذين يمنعون أي فاعل ديمقراطي من القدوم إلى السلطة أو البقاء فيها.
فكلما كان النظام أكثر استبداداً وتسلطاً في العالم العربي، زاد اعتماده على الدول الغربية أو على بعض الجهات الخارجية الأخرى. بعبارة أخرى من الصعب للغاية إن لم يكن من المستحيل، استغلال الأنظمة الديمقراطية، لذلك لا يريد الغرب في النهاية أنظمة مستقلة وديمقراطية في الشرق الأوسط.
لقد أثبتت الحالة الجزائرية في التسعينيات والقضية المصرية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بالفعل أن الدول الغربية عموماً تدعم الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية مثل دول الخليج.
بالإضافة إلى ذلك، حاول العديد من المراقبين تبرير الانقلاب التونسي بدعوى أن المحافظين لا يريدون تقاسم السلطة مع الآخرين. وفي عام 2013، برروا الانقلاب العسكري في مصر ضد الراحل محمد مرسي بدعوى أنه لا يشارك السلطة السياسية مع الجهات السياسية الفاعلة الأخرى. لكن الانقلاب التونسي يثبت أن الأمر ليس كذلك، لأنه حتى لو تقاسمت النهضة السلطة طواعية مع فاعلين سياسيين آخرين، فإن الغرب ووكلائه الإقليميين لم يكونوا راضين عن هذا الموقف واستمروا في تحميل حزب النهضة وحده المسؤولية عن الاضطرابات السياسية والاقتصادية في تونس، وبالتالي قرروا معاقبته.
كذلك قامت الدول الإقليمية المؤيدة للوضع الراهن مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر بإضفاء الطابع الشيطاني على الحركات الاجتماعية الإسلامية السائدة والأحزاب السياسية مثل جماعة الإخوان المسلمين والجماعات التابعة لها.
لذلك، قامت هذه الدول بمحاولات منع الجماعات الإسلامية المنتشرة في الساحة السياسية من الهيمنة على المجال السياسي في أي دولة إقليمية، لأن ذلك من شأنه أن يشكل "نموذجاً سيئاً" لمجتمعاتهم.
ويشكل الفاعلون السياسيون الرئيسيون بالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة وحلفائها الإقليميين، تهديداً أكبر من أي منظمة إرهابية راديكالية. لذلك هم في النهاية يفضلون وصول المتطرفين والتفاهمات الاستبدادية حتى لو كان معظمهم يمثلون السلفية مثل القاعدة وداعش وطالبان، إلى السلطة في جميع دول المنطقة، ما يمكنهم من استخدام هذه الجماعات المتطرفة كأعذار وأسباب لتدخلاتهم.
ومع ذلك، فإن النخبة التونسية المتعلمة والواعية سياسياً لن تكون رهينة لبعض البلدان الإقليمية على المدى المتوسط. وبمعنى آخر، سيكون من الصعب احتواء وتوجيه النخبة التونسية لفترة طويلة إذ أعلنت بعض الجماعات العلمانية بالفعل معارضتها للانقلاب السياسي.
ما هي سيناريوهات المستقبل إذاً؟
هناك 3 سيناريوهات لمستقبل تونس. أولاً، إذا نجح سعيّد في إمساك كل السلطة بيده، فستعود تونس إلى حالتها ما قبل الثورة كنظام فردي سلطوي نموذجي. ومع ذلك، فإن عودة سعيّد بنجاح إلى النظام القديم تعتمد بشكل صارم على دعم الجهات السياسية والبيروقراطية الأخرى إضافةً إلى الدعم المجتمعي.
وبالنظر إلى الوعي السياسي للنخبة التونسية، فسيكون لتحرك الفاعلين المحليين العلمانيين دور حاسم. مع توقع انقسام النخبة العلمانية تجاه النظام الجديد، إذ بينما سيطالب البعض بالإصلاحات السياسية وحقوق الإنسان، يفضل البعض الآخر الاستقرار السياسي والأمن على الحرية.
ثانياً، إذا فشل سعيّد في تأمين نظام الرجل الواحد، فسوف تدخل البلاد في حالة من عدم الاستقرار السياسي وعلى الأرجح ستدخل في حرب أهلية تؤدي إلى مقتل الآلاف من الأبرياء. وتتمثل العواقب النهائية لهذا الخيار في انتشار إراقة الدماء والفوضى السياسية والفقر الاقتصادي. وسوف ينهار التوازن الاجتماعي والسياسي الضعيف بالفعل. كما ستكون تداعيات الحرب الأهلية التونسية كبيرة جداً على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ثالثاً، إذا عاد سعيّد إلى الحياة الطبيعية وأعطى السلطة الدستورية للبرلمان وقاد تشكيل حكومة جديدة، فسيستمر التوازن السياسي الحالي والديمقراطية الفعالة، وهو الخيار الوحيد لترسيخ الديمقراطية التونسية.
وأنا شخصياً أشك في أن يوزع الرئيس السلطة في المستقبل القريب. ويبدو لي أن تونس دخلت فترة من الاضطرابات السياسية والاقتصادية العميقة وستظل معتمدة على بعض الدول الإقليمية والقوى العالمية لفترة من الوقت.