اتخذت الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة خطوات حاسمة لـ "الاعتراف" بتطورات تاريخية معينة. وجاءت هذه "الاعترافات" على شكل إجراءات أحادية الجانب تتحدى في معظمها المبادئ الأساسية للقانون الدولي.
ففي 6 ديسمبر/كانون الأول 2017، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب "اعتراف" الولايات المتحدة بالقدس التي تشمل القدس الشرقية، كعاصمة لإسرائيل. وبطبيعة الحال، كانت إسرائيل الدولة الوحيدة التي رحبت بالقرار بينما رفض الرأي العام العالمي وأغلبية الحكومات قرار ترامب.
وبعد يوم واحد من قرار الرئيس الأمريكي آنذاك، عقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة اجتماعاً طارئاً حيث أدان 14 من أصل 15 عضوا القرار وسط رفض الولايات المتحدة لتلك الإدانة بشكل طبيعي.
وبالمثل، عقدت جلسة طارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 2019، وصوت ما مجموعه 128 دولة عضو في الأمم المتحدة لصالح "بطلان وإلغاء" مشروع إعلان قرار ترامب.
وبالرغم من محاولات إدارة ترامب الابتزاز، إلا أن الدويلات الصغيرة المعتمدة على الولايات المتحدة صوتت لصالح البلاد.
كما قدم ترامب "اعترافاً" آخر من هذا القبيل في آذار/مارس 2019. فقد "اعترف" بالاحتلال الإسرائيلي لمرتفعات الجولان التي تعود ملكيتها إلى سوريا دون أي شك.
وكان هذا القرار هجوماً صارخاً على سيادة سوريا. وذلك لأن ضم إسرائيل للمرتفعات عام 1981 كان مخالفاً للمبادئ الأساسية للقانون الدولي وبالتالي لم يتم الاعتراف به دولياً.
وبعد القرار الإسرائيلي مباشرة، أعلن قرار مجلس الأمن رقم 497 أن الضم الإسرائيلي "باطل ولاغٍ وليس له أثر قانوني دولي".
اعتراف عام 1915
جاء اعتراف الرئيس الأمريكي جو بايدن الأسبوع الماضي بمذابح وترحيل الشعب الأرمني خلال الحرب العالمية الأولى بأنه "إبادة جماعية"، تصنيفاً آخر غير قانوني للولايات المتحدة.
بل إنه استمرار للإجراءات السياسية أحادية الجانب من الرؤساء الأمريكيين. كما أن إطلاق هذا "الاعتراف" جاء نتيجة دوافع سياسية كما أشارت وزارة الخارجية التركية. وغني عن القول أن الرئيس الأمريكي لا يملك السلطة القانونية ولا الأخلاقية للحكم على القضايا التاريخية.
ولإظهار الحقيقة دأبت تركيا على استدعاء المؤرخين والباحثين لفحص المحفوظات حول هذا التطور غير المرغوب فيه. وأعلن الرئيس رجب طيب أردوغان مراراً عن استعداد تركيا لفتح جميع الأرشيفات أمام الباحثين.
وما من شك أن قرار بايدن لن يخدم السلام ولا الاستقرار الإقليميين في المنطقة. بل إن الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية الأخرى التي تضم جاليات أرمنية كبيرة تمنع حدوث أي تطبيع بين تركيا والدولة الأرمينية.
ومن المثير للاهتمام أن أرمينيا لا "تعترف" بحدودها المرسومة دولياً مع تركيا أو أذربيجان.
وبالرغم من استفزازات القوى الخارجية، فقد دعت تركيا وأذربيجان أرمينيا إلى "الاعتراف" بحدودها الدولية، وشجعت البلاد على أن تكون على علاقة أفضل مع جيرانها الإقليميين.
كما أبدت كلاً من أنقرة وباكو استعدادهما لتطبيع علاقاتهما مع أرمينيا. ومع ذلك، فإن الدولة الأرمنية تتعرض لضغوط شديدة من الشتات الأرمني.
في الواقع، معظم الشعب الأرميني على استعداد للسلام الدائم. وبالرغم من عدم وجود تمثيل دبلوماسي، فإن حقيقة أن حوالي 100.000 أرمني يعيشون ويعملون في تركيا، تشير إلى أن الشعب الأرمني مستعد للتعايش وإقامة علاقات ودية وطبيعية.
ولسوء الحظ أن "الاعتراف" غير القانوني لبايدن ما هو إلا دليل آخر على استغلال الولايات المتحدة للأحداث التاريخية كأداة لمصالحها الوطنية. وليس الشاغل الرئيسي لرئيس الولايات المتحدة والكونغرس هو حماية حقوق الإنسان أو إصلاح خلل تاريخي أو التعاطف مع الأرمن الذين عانوا خلال الحرب العالمية الأولى.
كما أن هذا الاعتراف ليس التزاماً بحماية حقوق الإنسان أو القيم العالمية، إنما هو ليس أكثر من تحرك سياسي.
فما الذي دفع بايدن لمثل هذا التحرك؟
من المؤكد أن هذا "الاعتراف" هو محاولة لمعاقبة الحكومة التركية الحالية التي تحاول زيادة استقلاليتها على الساحة الدولية ورفع فعاليتها في مناطقها.
فالحكومات الأمريكية تريد لتركيا أن تعتمد على الولايات المتحدة كما كانت خلال الحرب الباردة.
وسيُذكر هذا القرار باعتباره نقطة تحول في العلاقات التركية الأمريكية، على غرار رسالة الرئيس السابق "ليندون جونسون" عام 1964 إلى رئيس الوزراء التركي آنذاك المتعلقة بحظر الأسلحة المفروض على تركيا بسبب تدخلها في جزيرة قبرص كورقة ضغط لوقف تدخل الأتراك الذين منعوا الحشود اليونانية التي كانت تهاجم القبارصة الأتراك.
بعبارة أخرى، سيضر هذا "الاعتراف" بشكل كبير بالعلاقات التركية الأمريكية.
ويمكن كذلك تفسير هذا الاعتراف على أنه رد فعل على التطورات الأخيرة في منطقة جنوب القوقاز. حيث أدى دعم تركيا لأذربيجان لتحرير أراضيها التي احتلتها أرمينيا لمدة 30 عاماً وتسبب النصر الحاسم على أرمينيا في إزعاج الحكومة الأمريكية التي لم تستطع التدخل في الصراع بسبب عملية الانتخابات بشكل أساسي.
ومن الواضح أن معظم الدول الغربية كانت تدعم الاحتلال الأرميني لإقليم قره باغ.
بالإضافة إلى العديد من العوامل الأخرى التي تساهم في قرار بايدن والتي تتجاوز في عددها وعمقها حدود العمود الصحفي.
لكن من الواضح بشكل عام أن هذا "الاعتراف" لن يساهم في إرساء السلام والاستقرار بين تركيا وأرمينيا. وسيزيد من تأجيج الكراهية بين كلا الجانبين على حساب الطرفين.
وكما ذكر "هرانت دينك" أحد كبار المفكرين الأرمن، يجب على الأتراك أن يساعدوا الأرمن على الشفاء، كما يجب على الأرمن أن يساعدوا الأتراك على الشفاء أيضاً.
وختاماً، يحتاج كل من الطرفين إلى فهم الآخر من أجل بدء بداية جديدة. ولن تؤدي التدخلات الخارجية إلا إلى نزيف الجروح الملتئمة وفتحها مرة أخرى.