في مايو أيار الماضي عقد الرئيس رجب طيب أردوغان محادثات مع زعماء الاتحاد الأوروبي لفتح صفحة جديدة في العلاقات التركية الأوروبية بعد عدة أشهر من التوتر قبل الاستفتاء التركي في أبريل. وفي قمة مجموعة العشرين في هامبورغ عقد أيضا اجتماعات مع القادة الأوروبيين من بينهم المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل لرسم مسار جديد في العلاقات الثنائية. وبينما كان الجميع يتوقعون ظهور مناخ جديد وأكثر إيجابية، أعلن وزير الخارجية الألماني سيغمار غابرييل في الأسبوع الماضي تغييراً كبيراً في السياسة في تركيا. من أين جاء كل هذا؟ وما الذي يكمن وراء كل ذلك؟
وأشير إلى حادثين أخيرين كسبب محتمل لهذا التحول في السياسة العامة. الأول هو احتجاز مواطن ألماني في تركيا بدعوى تورطه في أعمال غير مشروعة. والثاني هو الادعاء بأن تركيا تحقق مع الشركات الألمانية في تركيا كجزء من التحقيقات الجارية في مجموعة غولن الإرهابية. ذهبت الحكومة الألمانية إلى حد ادعاء أن المواطنين والشركات الألمانية ليسوا آمنين على حد سواء في تركيا. بطبيعة الحال، فإن هذه الاتهامات الألمانية لا أساس لها.
لا يوجد تهديد لألمانيا أو غيرها من الأجانب في تركيا أثناء زياراتهم أو قيامهم بأعمال تجارية في تركيا. والحالة المذكورة في احتجاز مواطن ألماني هي عملية قضائية، وستصدر المحاكم وحدها الحكم النهائي في الأمر. كما لا توجد قائمة سوداء للشركات الألمانية التي يجري التحقيق فيها أو استهدافها بأي شكل من الأشكال. هناك حوالي 7000 شركة ألمانية في تركيا وبعضها يمارس نشاطا تجاريا في تركيا منذ قرن تقريبا. ولم يتم إغلاق أي شركة أجنبية أو التحقيق فيها بعد محاولة الانقلاب التي وقعت يوم 15 يوليو. والشركات التي تم إغلاقها أو مصادرتها هي وحدها الشركات التابعة لمنظمة غولن الإرهابية.
العلاقات التركية الألمانية لها تاريخ طويل وليس هناك سبب معقول لكسرها الآن. مئات الآلاف من المواطنين الألمان والسياح ورجال الأعمال يزورون تركيا كل عام دون أي مشاكل. ويعيش أكثر من 3 ملايين شخص من أصل تركي في ألمانيا كمواطنين ومقيمين قانونيين. ليس هناك سبب لرؤيتهم تهديدات أو أخطاراً تحت أي مبرر.
على مدى العقد الماضي، كانت الحكومات الألمانية المتعاقبة تحت رئاسة المستشارة أنغيلا ميركل تعبر بوضوح عن معارضتها لعضوية تركيا الكاملة في الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، واصلت تركيا العمل مع ألمانيا على مختلف المستويات. هناك نقاط خلاف أخرى حول قضايا مثل التكامل والاستيعاب والتعددية الثقافية والحرب السورية. وعلى الرغم من هذه الاختلافات، فإن اتفاق الهجرة بين تركيا والاتحاد الأوروبي الذي وقع تحت القيادة الألمانية عمل على وقف تدفق اللاجئين من سوريا والمنطقة إلى أوروبا. كما حققت العلاقات الاقتصادية تقدما جيدا في الأوقات المضطربة.
إلا أن الموقف الألماني من استفتاء 16 أبريل جاء مفاجئا. لم يكن لمنع السياسيين الأتراك من حزب العدالة والتنمية الحاكم، بمن فيهم الوزراء، من لقاء الناخبين الأتراك في ألمانيا أي معنى على الإطلاق. وفي حين سمح لمعارضي الإصلاحات الدستورية بإطلاق العديد من الفعاليات، لم يعط مؤيدو الإصلاحات الدستورية نفس حيز الحرية. ويشكو الإعلاميون والسياسيون الألمان من حرية التجمع في تركيا، لكن المسؤولين لم يسمحوا حتى لأردوغان بالاجتماع مع المواطنين الأتراك في ألمانيا في تجمع سلمي.
والأسوأ من ذلك أن المنظمات الإرهابية الرئيسية المحظورة مثل "منظمة بي كا كا" الإرهابية نظمت مسيرات وأحداثاً داخلية ليس فقط لدعم أي حملة ضد تركيا، ولكن أيضا لنشر أيديولوجية التنظيم المحظور، وتبرير أعماله الإرهابية. علاوة على ذلك، سمح للعشرات من المشتبه فيهم في انتمائهم إلى منظمة "غولن" الإرهابية بإعداد فعاليات في ألمانيا، في حين أن هناك في الواقع أوامر للقبض عليهم في تركيا. يضاف إلى ذلك هاجس وسائل الإعلام الألمانية من أردوغان، الذي يقرأ مثل الأفكار المتداخلة للتعليق السياسي المضطرب عقليا وليس الجدي.
والآن تقول الحكومة الألمانية إنها ستعمم هذه القضية إلى بقية أوروبا، أي أنها ستستخدم قوتها لتعبئة دول أوروبية أخرى ضد تركيا. هل هذه حقا سياسة سليمة؟ هل يعتقد أحد أن تركيا فقط سوف تتضرر من هذا النهج غير العقلاني؟ إلى أي مدى ستغفل ألمانيا عن المخاوف الأمنية المشروعة لتركيا بشأن وجود تنظيمات كـ "بي كا كا" و"غولن" الإرهابيتين والمجموعات الأخرى التي تكون سماتها الرئيسية العداء المفتوح تجاه تركيا، التي هي حليفة للناتو وبلد مرشح في الاتحاد الأوروبي؟ كيف سيكون موقف ألمانيا، أو أي دولة أخرى في هذا الشأن، إذا سمحت تركيا لعشرات من الأفراد والمنظمات المناهضة لألمانيا بشن هجمات لا هوادة فيها عليها؟
من الواضح أن الانتخابات الألمانية المقبلة في أيلول / سبتمبر لها دور في كل هذا. الشعبوية المناهضة لتركيا تجلب التصفيق والاهتمام والأصوات. علاوة على ذلك، يرى البعض أن أردوغان وتركيا "شماعات" يمكن تعليق جميع مشاكلهم الداخلية عليها. بعض الدوائر السياسية في أوروبا تستخدم تركيا كمشكلة لتجنب النظر إلى نفسها في المرآة وحساب صورتها. هم يستمرون في تصدير صورة مشوهة عن الأتراك على أنهم مثلا "برابرة" بحيث يشعرون بالرضا عن أنفسهم ويهربون من مشاكل حقيقية لديهم في بلادهم مثل ارتفاع كراهية الأجانب والبطالة وانعدام المساواة والعنف المنزلي، والنزعة الفردية والعنصرية والتحيز الجنسي والصراع الطبقي والتعددية الثقافية والشعور العام بالضعف.
علينا أن نواجه حقيقة بسيطة بأن تحويل تركيا إلى دولة معادية أخرى قد يحقق مكاسب قصيرة الأجل للانتهازيين السياسيين والعنصريين المتطرفين في أوروبا؛ لكنه لا يحل مشاكل أوروبا نفسها ولا يوفر خريطة طريق سياسية وأخلاقية للمستقبل. فهو يعمق الشعور بعدم الثقة الذي يسمم العلاقات بين تركيا وأوروبا من ناحية والمجتمعات الإسلامية والغربية من جهة أخرى.
يجب رفض هذا الأمر، في وقت تتطلب فيه المشاكل العالمية مثل عدم المساواة والظلم والإرهاب والغربة وانعدام الثقة، الشراكة والتفاهم على الصعيد العالمي. إن العلاقة القائمة على الثقة والمصلحة المتبادلة والمساواة والاحترام ممكنة وضرورية بين تركيا وأوروبا. ويتعين على الأتراك والألمان والأوروبيين العمل بجد لتجنب المواقف غير المنطقية والسياسات غير المسؤولة التي تؤذي الجميع.