ونحن في بداية شهر رمضان المبارك الذي يصوم فيه المسلمون عن الطعام من الفجر إلى الغروب عبادة وطاعة لله تعالى وفي عالم أصبح منغمسا في ذاته مهتماً بالجانب المادي الفردي، قد يبدو الصيام عملا غريبا وحتى إجراءً متطرفا للناس اليوم. وقد يرفضه البعض بوصفه غير منطقي. لكن التأمل السريع يكشف أن الصوم هو عمل يقوم على العقل والنفس والروح أكثر من الجسم ويساعدنا على إظهار أفضل ما في إنسانيتنا.
الصوم هو أمر يقوم على الذكاء والإرادة. إذ لا يمكن للمرء أن يصوم إذا لم يقتنع بأغراضه الدينية. على المرء أن يكون على قدر كاف من المعرفة والحكم السليم لاتخاذ قرار الصيام. هذا مبدأ أساسي في الشريعة الإسلامية: الواجبات الدينية لا تنطبق على المجنون مثلا. الصيام ينطوي على العقل بمعنى أننا مدعوون للتفكير في أنفسنا والعالم خلال الصيام. والبقاء بعيدا عن الطعام والشراب و الجماع أثناء الصيام ليس في الأساس عملاً يقره الجسم ولكن يقره العقل وتنفذه الإرادة.
الصوم هو أيضا فعل الإرادة، حيث نستخدم ما لدينا منها للبقاء بعيدا عن الملذات الدنيوية للوصول إلى حالة أعلى من الوجود. ولا يمكننا أن نفعل ذلك دون إقناع أنفسنا بحقيقتها ودون تأديب عقولنا وهيئاتنا.
ولكن ما هو أكثر أهمية من ذلك، هو الصيام مع النفس والروح. لقد فقدت هاتان القيمتان معناهما الأصلي في المجتمعات الاستهلاكية في مرحلة ما بعد التنوير. في بعض الحالات، لم نعد نستخدمهما حتى لشرح حالة الإنسان. ولكن لآلاف السنين، كان ينظر إلى الإنسان ليس على أنه فقط عقل وجسد ولكن أيضا نفس وروح. الحد من الطبيعة البشرية المعقدة إلى "النفس" هو مصطلح آخر مرتبط بالحداثة، ورفض دول أخرى لها بوصفها غير علمية أو لاهوتية يأتي بتكلفة لا ندركها. إذ إن إنكار النفس والروح البشرية يعود على الدولة الإنسانية بالتقزيم.
في الموروث الإسلامي، النفس تشير إلى الإنسان ككل. إذ هي على درجات مختلفة تراوح بين الكمال الروحي والرضا إلى الانحطاط الأخلاقي والدمار. قد تجعلنا النفس بشرا حقيقيين أو تحولنا إلى ما هو أسوأ من الوحوش. يمكن أن تصبح مرآة تعكس جمال خلق الله أو قد تكون المستنقع الذي يغرقنا في الظلام. هذه هي الطبيعة متعددة الأبعاد من الروح التي تتطلب اهتمامنا خلال الصيام كذلك. الحد من الروح لرغبات مموهة هو نفس تقليص الإنسان إلى مجرد العظام واللحم.
لدينا مشكلة مماثلة مع كلمة الروح اليوم. ونحن بالكاد نستخدم هذا المصطلح بمعناه الميتافيزيقي والأخلاقي الأصلي. الروح تشير إلى المادة الإلهية التي نفخها الله في الإنسان لكي يصنعه. وتربط وجودنا الدنيوي بالإلهي. وعندما تُغذّى بشكل صحيح، فإنها ترفعنا إلى مستوى الملائكة وحتى أبعد. وإذا ما تجاهلناها وأظلمناها، فإنها تحول البشر إلى وحوش.
مع أخذ هذه التحذيرات في الاعتبار، يمكننا أن نقول إن المرء يصل إلى حالة حقيقية من الصقل الروحي عند الصيام ليس فقط مع الجسم ولكن أيضا مع النفس والروح. إن السيطرة على الذات وعدم الانغماس في الملذات البدنية لفترة معينة من الزمن هو ليس سلوكا من أشكال التطوع فحسب. بل هو أيضا ممارسة مهمة في الجانب الروحي. من خلال الحصول على قيمة أقل من العالم المادي، في مقابل كسب المزيد من المجال الروحي.
ولكن بما أن الإسلام يحثنا على اعتماد طريق وسط في كل شيء، فليس لنا أن نذهب إلى أقصى حد من إنكار الذات والحرمان لها. فبعد الصيام من الفجر إلى غروب الشمس، نحن مدعوون لنعتز بتضحياتنا الجسدية والروحية مع وجبة هي بمثابة مكافأة اليوم. ليكن هذا للحصول على التغذية اللازمة لرعاية أجسادنا.
ما هو ضروري هو الاستمرار في الطريقة الروحية في الليل بالصلاة والدعاء والتأمل. ونحن نطعم أنفسنا وأرواحنا بالنوع الصحيح من التغذية، نصبح أكثر اكتمالا وأكثر ثراء.
وينبغي أن نتذكر أيضا أنه في شهر رمضان قد نزل القرآن الكريم، الكتاب المقدس للإسلام. في القرآن نجد أن أكثر المبادئ التوجيهية هي من قبيل إلقاء الضوء على الحياة الروحية الصحيحة. ويحث القرآن البشر على استخدام ذكائهم وإرادتهم لإقامة حياة أخلاقية حميدة. وهو يصف دور النفس والروح بوضوح لافت للنظر؛ إذ يقول علينا نحن البشر التغلب على الجسد وإثراء الروح دون أن نتعدى أقصى الحدود وننكر مجمل دولة الإنسان.
ونحن نبدأ شهر رمضان، دعونا نأمل وندعُ أن يصل صيامنا وصلواتنا إلى أعماق نفوسنا وأرواحنا.