سوريا تموت بينما العالم يراقب. ومع الأسلحة الكيماوية والتقليدية التي يستخدمها نظام الأسد، فإن الموت لا يطول النساء والأطفال السوريين فحسب، بل أيضا إنسانيتنا.
لقد قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما: "أريد أن أوضح أمرا للأسد وأولئك الذين يخضعون لإمرته.. العالم يراقب" خلال خطاب في جامعة الدفاع الوطني في واشنطن يوم 4 ديسمبر / كانون الأول 2012. وكان هذا تحذيرا ضد احتمال استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيماوية. حتى جاء ذلك الهجوم في 21 أغسطس / آب 2013 في الغوطة قرب دمشق، وأسفر عن مقتل ما لا يقل عن 1500 شخص بينهم نساء وأطفال. وبعد خمس سنوات، حصيلة ما قتله الأسد أكثر مما سجل في تاريخ أي مجرم آخر في التاريخ الحديث. وقد فعل ذلك كله بكل من الأسلحة الكيماوية والتقليدية على حد سواء في حين كان العالم "يراقب".
وكان الهجوم الكيماوي في خان شيخون في 4 أبريل / نيسان 2017 هو الحلقة الأخيرة من سياسات الأسد في الإبادة الجماعية. وقد توقفت الأمم المتحدة عن إحصاء أعداد القتلى فى سوريا على أساس أن الأرقام لا يمكن التحقق منها. والواقع أن الأمم المتحدة، مثل بقية المجتمع الدولي وأقوى الدول في العالم، قد حققت الفشل تلو الآخر في وقف أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين.
ويشير تقرير لمنظمة العفو الدولية المؤرخ بتاريخ 22 شباط / فبراير 2017 إلى أنه "بحلول نهاية عام (2016)، تسبب النزاع في وفاة أكثر من 300 ألف شخص". لكن الأعداد الفعلية أعلى بكثير، إذ ربما تجاوزت أعداد القتلى الـ 600،000 قتيل على يد قوات نظام الأسد والمليشيات القابعة تحت قيادته. ولم تنجح مفاوضات جنيف ولا أستانا في منع النظام من استخدام الأسلحة الكيماوية والتقليدية ضد شعبه. ومع استمرار النظام بمشاهدة العالم "يراقب" مجازره والاستمرار في سردية محاربة إرهابيي داعش، فمن المرجح أن يستمر النظام في طريقه الوحشي الحالي.
إن أولئك الذين نجوا من الهجمات الكيماوية والبراميل المتفجرة وقذائف الهاون أصبحوا لاجئين ومشردين داخليا كما الملايين من قبلهم. ويشير تقرير منظمة العفو الدولية نفسه إلى أن "نحو 4.8 ملايين شخص فروا من سوريا بين عام 2011 ونهاية عام 2016، من بينهم 200 ألف شخص أصبحوا لاجئين خلال عام 2016. ووفقا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن النازحين داخليا في سوريا، نصفهم من الأطفال، ووفقا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية ". وفي المجموع، تشكل هذه الأرقام حوالي نصف الشعب السوري. وعلاوة على ذلك، توفي الآلاف في المياه الباردة للبحر المتوسط وبحر إيجة. ووفقا لليونيسف، هناك أكثر من 8 ملايين طفل سوري في حاجة ماسة إلى المعونة بمن في ذلك أكثر من مليوني طفل من اللاجئين.
رد الولايات المتحدة على هجوم خان شيخون الكيميائي كان خطوة في الاتجاه الصحيح وتحذيرا عمليا، وليس مجرد كلمات. ونظرا إلى ضخامة القتل المستمر بالأسلحة التقليدية والأزمة الإنسانية المتنامية، فإن هذا لا يكفي سواء لوقف الحرب أو توفير الحماية للشعب السوري. صحيح أن نظام الأسد لن يجرؤ على استخدام الأسلحة الكيماوية مرة أخرى بعد الانتقام الأمريكي. لكن التركيز على استخدام الأسلحة الكيماوية هو إمعان في تمويه النظام الذي سيعني الأمر بالنسبة إليه أنه يمكن أن يستمر في جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية بالأسلحة التقليدية لأن العالم لا يتحرك إلا عندما يستخدم الأسلحة الكيماوية.
وقد أدت هذه الملحمة الإنسانية غير المسبوقة إلى خسائر فادحة في السياسة والأمن. لم يخلق أي صراع آخر في التاريخ الحديث حالة من عدم الاستقرار مثل الذي أحدثته الأزمة السورية. أولئك الذين يعتقدون أن الأزمة السورية يمكن احتواؤها داخل سوريا أو جيرانها المباشرين هم بالضرورة مخطئون. هذه حرب تسمم السياسة الإقليمية وتقوض التوازن العالمي للقوة. إنها أكبر حرب بالوكالة في الذاكرة الحديثة. فهي تمكن الجهات الفاعلة من غير الدول من إقامة شبكات إرهابية، مما يزيد من ضعف الدول الضعيفة والفاشلة أصلا. فهي تعمق التوترات الطائفية من العراق إلى لبنان وخارجه. وهي تواصل تأجيج أزمة اللاجئين على نطاق عالمي مع ما يترتب على ذلك من تداعيات لكراهية الأجانب والعنصرية في أوروبا. وهي لا تزال أرضا خصبة للمتطرفين العنيفين والإرهابيين مثل تنظيم القاعدة وداعش. دعونا نتذكر أيضا أنه لم يكن هناك داعش في سوريا قبل ثلاث سنوات فقط. لقد كانت الحرب السورية وعدم الاستقرار المستمر في العراق بمثابة التفويض المطلق الذي جعل من داعش اليوم وحشا مرعبا.
وعلاوة على ذلك، قوضت الحرب السورية ادعاء النظام العالمي الحديث بحماية كرامة الإنسان ومنع انتهاكات حقوق الإنسان. فهو يقوض خطاب الديمقراطية والحرية والتعددية تجاه الشعب السوري وإخوته في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي الأوسع. لقد تسببت هذه الحرب بالتوتر بين حليفين من الناتو، تركيا والولايات المتحدة بسبب سياسة إدارة أوباما لدعم تنظيمي "ب ي د" و "ب ي ج" الذراعين السوريين لتنظيم بي كا كا الإرهابي. وليس لهذه القائمة من المشاكل الإقليمية والجيوسياسية المتفتقة عن الحرب السورية من نهاية فهي مستمرة.
صحيح أنه لا توجد حلول سهلة في سوريا، على الأقل في المرحلة الحالية التي وصلت إليها الأزمة؛ إذ لن يتخلى مؤيدو النظام عن دعمهم لمجرد قصف الولايات المتحدة لقاعدة جوية للنظام. كما لن يستجيب الأسد للمطالبات بالتنحي، كما فعل مقتدى الصدر في خطاب مفاجئ الأسبوع الماضي. فوفقا لحساباته، هو يفوز بالحرب ليس فقط لأنه يحظى بدعم روسيا وإيران وحزب الله ولكن أيضا لأنه يرى تحالفا دوليا غير حاسم وضعيفاً ضده. وعلاوة على ذلك، بإمكانه استخدام داعش كأداة لتقديم نفسه على أنه أقل شرا.
كان من شأن اقتراح تركيا إنشاء مناطق آمنة للسوريين داخل سوريا أن ينقذ آلاف الأرواح ويمنع الهجمات الكيماوية خلال السنوات الثلاث الماضية، لكنه وقع على آذان صماء على جانبي المحيط الأطلسي. وتستضيف تركيا حاليا حوالي 3 ملايين لاجئ، وتواصل تقديم المساعدات الإنسانية لعشرات الآلاف من السوريين داخل سوريا.
لا شك في أن داعش تجب محاربتها وتدميرها؛ فقد تسبب هذا الوحش بالفعل بالمزيد من الألم والإرهاب مما كان ينبغي السماح به. ولكن فضيحة أخلاقية وكارثة سياسية تغض الطرف عن الوحش الآخر للحرب السورية، أي نظام الأسد وفظائعه. مع بلدان مجموعة السبع التي اجتمعت في إيطاليا في 10 أبريل، ظهر نهج مشترك حيث روسيا بحاجة إلى إقناع لتغيير نهجها في الصراع السوري ووقف دعم نظام الأسد.
سوريا تموت بينما العالم يراقب. ومع الأسلحة الكيماوية والتقليدية التي يستخدمها نظام الأسد، فإن الموت لا يطول النساء والأطفال السوريين فحسب، بل يطول إنسانيتنا أيضا.