جاءت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة إلى ثلاث من دول الخليج العربي، البحرين والسعودية وقطر خلال منعطف حرج في منطقة الخليج والشرق الأوسط. فما نشهده من فوضى عالمية وتنافس إقليمي على السلطة قد ألقى بظلاله على الخريطة السياسية منعكساً على شعوب الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. ثمة حاجة ملحة إلى تأسيس توازن قوى لمعالجة القضايا الأمنية والتحديات الاقتصادية وتفادي المزيد من الصراعات. ويمكن لذلك أن يتحقق فقط في حال بادرت قوى المنطقة إلى تأسيس مرحلة من التضامن فيما بينها واستعادت مسؤوليتها الإقليمية.
منطقة الخليج، كغيرها في العالم، ليست محصنة ضد تأثيرات النظام العالمي الذي ضل طريقه. فمع أن التكافل العالمي، والاعتمادية المتبادلة قد قربت العديد من التكتلات في أوروبا وأمريكا، إلا أنها في الوقت نفسه فككت التحالفات القديمة وزرعت بذور الفتنة والصراع في مناطق أخرى من العالم، من بينها العالم الإسلامي. ومنذ نهاية الحرب الباردة، فشل السعي إلى توازن قوى في بناء نظام عالمي جديد. فالحرب البوسنية، ومذابح رواندا، وغزو الكويت، وحرب الخليج الأولى، والغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق بعد الحادي عشر من سبتمبر، وإلحاق القرم بروسيا، والحروب في ليبيا واليمن وسوريا، وظهور المليشيات، واللاعبين من غير الدول، وغيرها الكثير، من مظاهر الضعف والهشاشة شكلت عالم ما بعد الحرب الباردة.
إن هذه الصراعات، بغض النظر عن أسبابها وخدعها، تدعو إلى المزيد من التعاون بين شعوب الشرق الأوسط. كما أن تصاعد التطرف والعنف على شكل تنظيمات كالقاعدة وداعش من جهة، وزيادة الانقسام الطائفي بين الشيعة والسنة من جانب آخر، تتطلب نظرة بعيدة المدى وقيادة سياسية حكيمة. يجب على المسلمين أن لا يسمحوا للعنف والتطرف والطائفية بتحديد مصيرهم ومستقبلهم. الرئيس رجب طيب أردوغان، قال في كلمته في مؤسسة السلام العالمي في البحرين، مؤكداً التزامه بنشر السلام والاستقرار في الشرق الأوسط: "لا يمكننا أن نترك مستقبلنا تحت رحمة الآخرين".
المسؤولية الإقليمية تدعو إلى التعامل مع التحديات والصراعات في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي من خلال حوار جاد في مجالات الأمن والتعاون الاقتصادي. هذا لا يعني أننا سندير ظهورنا لبقية العالم. لا يمكن للانكفاء على الذات أن يخدمنا في عالم اليوم متعدد الأقطاب والآخذ في التشابك والتعقد. وعلى النقيض، فإن الشعور بالمسؤولية الإقليمية يشجع الانفتاح على العالم. ويمكن لذلك أن يحقق علاقات الربح المتبادل عند القضاء على مشاكل المنطقة التي يمكن للآخر أن يستغلها لمصلحته. تركيا تتخذ سياسة ترتكز على التعزيز والتمكين المتبادل مع جيرانها ومع العالم الإسلامي بشكل أوسع. فهي تسعى إلى خلق حلول إقليمية للمشاكل الإقليمية. وإدراك ترتيب أولوياتنا يشكل أول خطوة في اتجاه علاقات ربح متبادل تساهم في نمو وأمن مجتمعاتنا. كما يمكن انهاء العنف والتشدد والطائفية عندما ندرك بأن توازن القوى قد يخدم جميع الأطراف. فكما رأينا في الصراعات المعاصرة، فإن استخدام التأثير غير المباشر من خلال الحروب بالوكالة ألحق الضرر بالجميع. لا أحد يخرج منتصراً من حروب الهزيمة الذاتية.
وخلال العشر سنوات الماضية، طورت تركيا علاقات عريضة مع دول الخليج. ووصل حجم تجارتها مع دول التعاون الخليجي ما يزيد على 16 مليار دولار. وعلى الرغم من كفايتها مقارنة بالقدرات التي تحملها البلاد، إلا أنها تشكل على الأقل قاعدة لتعاون مستقبلي في التجارة والطاقة والسياحة والصناعات العسكرية والعلوم والتكنولوجيا والتعليم. وقد ساهم تشكيل لجنة الحوار الإستراتيجي العليا المشتركة بين تركيا ومجلس التعاون الخليحي في فتح آفاق فرص التعاون، مع حاجتها إلى مزيد من التفعيل لاكتشاف فرص جديدة. تركيا تولي اهتماماً بالغاً بأولويات الأمن والنتاج الاقتصادي في دول الخليج وتدعم المبادرات الإقليمية لحل الأزمات في اليمن والبحرين ولبنان والعراق وسوريا وغيرها.
المحادثات حول اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي تسير على قدم وساق، وقد يتم التوقيع عليها خلال فترة رئاسة البحرين للمجلس. دول الخليج تحمل نفس هذا التوجه، حيث تفهمت قلق تركيا إزاء تنظيمات بي كا كا وغولن، وألحقت التنظيمين بقائمة التنظيمات الإرهابية لديها. السعودية وقطر والبحرين اتخذت بشكل خاص العديد من الخطوات لوقف نشاط تنظيم غولن سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات. كما أن الحرب على داعش والتنظيمات الإرهابية فكرياً وعسكرياً تشكل نقطة تقاطع مهمة بين تركيا والخليج. ولا ننسى الجهود الحثيثة لمنع ربط الإسلام بالإرهاب والعنف سواء في العالم الإسلامي أو الدول الغربية. تركيا والسعودية وقطر يعملون عن قرب من أجل حل الأزمة السورية، وتأسيس قاعدة للأمن والسلم في العراق. جهود مماثلة من دول المنطقة ستساعدنا حتماً على الاستفادة القصوى من مقدراتنا في سبيل السلم ورفاهية الشعوب. الأزمات الإقليمية تتطلب نظرة ورؤية إقليمية، لا يمكن لها أن تكتمل دون شراكات وتحالفات إقليمية. ومن دون أن نرخي مرساتنا في موطننا، لا يمكن لنا أن نبحر بأمان في عالم من الفوضى وعدم الاستقرار.