يعاني العالم الإسلامي الانقسام والفقر والحكم السيئ والتفتت السياسي العميق الحاصل على طول ما يسميه العلماء الكلاسيكيون دار الإسلام أو أرض السلام. فالحروب الأهلية والصراعات الطائفية والقبلية والتدخلات العسكرية والدول الفاشلة والحكومات الضعيفة تهدر الموارد الطبيعية والبشرية للبلدان الإسلامية. لكن ما هو أكثر إثارة للقلق من الانقسام السياسي والتشظي، هو التجزؤ العقلي والروحي الذي يجتاح العالم الإسلامي اليوم.
كان للإمبراطوريات والدول والإمارات الإسلامية نصيبها من الخلافات السياسية والمنافسة على السلطة. غير أن المخيال الاجتماعي الذي وحد المجتمعات الإسلامية من البلقان وإفريقيا إلى الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا ظل دائما قويا. وكان تقاسم نفس النظرة الفكرية والروحية أكبر قوة للأمة. ما وحد العالم الإسلامي تجاوز عقليا وروحيا الاختلافات السياسية والعرقية والطائفية. والعالم الإسلامي بحاجة إلى استعادة هذه الروح اليوم.
إن النظرة الفكرية والمخيال الاجتماعي للمجتمعات الإسلامية التقليدية متجذران في الوحدة الإلهية والدعوة للعدالة والفضيلة. وكانا يستندان أيضا إلى الحب الإلهي ومحبة الناس لبعضها بعضاً لأن الله رحمة بلا حدود ومغفرة. يجب على البشر أن يحبوا الله، والعالم الطبيعي وغيرهم من البشر كجزء من إيمانهم. لقد أعطيَ العالم للبشر باعتباره أمانة، ومن المتوقع أن يقوم البشر بالاعتناء به. إن "العالم" الذي نعيش فيه لا يقف بمفرده؛ فهو ليس مادة مكتفية ذاتيا. وهو موجود لخدمة غرض الا هو السماح للبشر بإقامة الإيمان والعدل والفضيلة في أرجائه. فقط أعمالنا الصالحة يمكن أن تقيس إنسانيتنا.
هذه الرؤية الخاص للعالم يجب أن يتبناها كل عمل إنساني في العالم الإسلامي. من الفلاحين البسطاء إلى كبار المهندسين المعماريين والعلماء والتجار ورجال الدولة. لا بد على الجميع تنفس الهواء الفكري والروحي من الواقع المتسامي الذي تجاوز أحكام ومحن هذا العالم. لقد قامت الجيوش والحروب والإمبراطوريات فيما قبل وذهبت، لكن النسيج الأخلاقي للمجتمعات الإسلامية المثابرة لا بد أنه مستمر.
وليس من قبيل المصادفة أن العالم الإسلامي قدم بعض أعظم أعماله العلمية والفنية والمنح الدراسية خلال وبعد الهجومين الرئيسيين على أرضه، أي الحروب الصليبية والغزوات المغولية. أخذ الصليبيون القدس في 1099 ودمروا الأرض المقدسة بطريقة لم يسبق لها مثيل من قبل. فيما دمر المغول كل ما وقع في طريقهم، وأخيرا أهلكت الإمبراطورية العباسية مرة واحدة في 1258 وحولت شوارع بغداد للون الأحمر لعدة أيام. استمر القتال السياسي بين المسلمين دون هوادة تقريبا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر وبعده. ولكن أيا من هذا لم يمنع ظهور وازدهار قائمة طويلة من المسلمين العلماء في كل مجال من مجالات العلوم الفكرية والروحية. الإمام الغزالي، فخر الدين الرازي، السيوطي، ابن سينا، ابن رشد، ابن حزم، ابن طفيل، ابن باجة، مولانا جلال الدين الرومي، ابن العربي، السهروردي، البيروني، ناصر الدين الطوسي، ابن خلدون وغيرهم ممن بنوا حضارة عالمية على الرغم من الاضطرابات السياسية والعسكرية التي تحيط بهم.
فالصراعات السياسية واسعة النطاق والمواجهات العسكرية كان لها تأثير على حياة الناس العاديين فضلا عن المجتمعات العلمية والفنية. لكن هذا لم يكن أبدا ذريعة لتبرير الكسل الفكري. بل على النقيض من ذلك، فقد حول قادة الفكر والروح في الأمة الأزمات إلى فرص ليكونوا أكثر إبداعا وأكثر مرونة وأكثر مسؤولية. ولم ينتظروا حل الأزمات السياسية والعسكرية لإنتاج أعمالهم. بل ساعدت مرونة واستمرارية أعمالهم الدائمة على التخفيف من حدة الصراعات السياسية على المدى الطويل.
صحيح أن الفلاسفة والعلماء والفنانين المسلمين لديهم وجهات نظر خاصة بهم، وخلافات ونزاعات صحية. لكنهم يتشاطرون النظرة الفكرية والمخيال الاجتماعي الذي حافظ على تقليد علمي وفني لعدة قرون. وعملوا في بيئة مفاهيمية حافظت على مبدأ "الوحدة في التنوع" (وحدة في الكثرة). ورأوا أن الوحدة لا تعني بالضرورة التوحيد، والتنوع ليس الفوضى.
لقد ضاعت وحدة وسلامة هذه النظرة الفكرية والروحية في العالم الإسلامي اليوم. فالمثقفون المسلمون ليسوا متأصلين بعمق في تقاليدهم ولا يشعرون بالارتياح إزاء النظرة العالمية الجديدة للحداثة العلمانية. إنها ممزقة بين ماض مجيد وحاضر مزدحم بالصراع ومستقبل غير مؤكد. ومن المفارقات والمفجعات أيضا أن الهويات الوطنية والثقافية والطائفية ترسم منظوراتنا وردودنا اليوم في عالم العولمة وتزايد الترابط. والنتيجة هي التجزؤ العقلي والروحي الذي يأتي بسعر مرتفع؛ فهو يعمق الخلافات والانقسامات القائمة، ويخلق المزيد من الاغتراب، ويؤدي إلى صراعات لا نهاية لها.
على العالم الإسلامي أن يتعافى من حالة الفقر هذه وأن يعيد بناء جوانبه الفكرية والأخلاقية. وعليه، في الوقت الذي يجرى فيه ترسيخ تقاليده وجذوره، أن يقترب من العالم من منظور أكثر انفتاحا. ولن يتم التغلب على الانقسام السياسي إلا عندما نستعيد قواعد مشتركة لإضفاء معنى على العالم الذي نعيش فيه.