تواجه أوروبا أكبر أزمة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية. آلاف الرجال والنساء والأطفال، من سوريا والصومال وأفغانستان واريتريا وليبيا وغيرها من المناطق، يغامرون بحياتهم بحثا عن حياة آمنة خارج مناطق الحروب. أكثر من 3.000 لاجئ لقوا حتفهم في البحر الأبيض المتوسط هذا العام وحده، خلال محاولاتهم الوصول الى أوروبا. وعلى عكس الادعاءات، فإن هذه ليست أزمة أنظمة الدول الأوروبية أو قدراتها الاستيعابية، بل هي أزمة في القيادات السياسية والضمير.
لم تنتبه أوروبا لفظائع الحرب التي يعاني منها السوريون منذ أربعة أعوام حتى رأت الصورة المؤلمة لمقتل الطفل السوري ذي الثلاثة أعوام، إيلان كردي. العالم رآى صورة واحدة مؤلمة، إلا أن آلاف الصور الأخرى بقيت غائبة عن البصر والسمع. هذه الصور التي تحكي قصة عار فشل النظام الدولي في رعاية الضعفاء والفقراء في هذا العالم.
وبعد اضاعة الكثير من الوقت، يتقدم القادة الاوروبيون أخيرا للجلوس الى الطاولة. والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل، تقود التعامل مع الأزمة. فقد تعهدت بقبول 800.000 لاجئ في المانيا خلال العام الجاري. وفرنسا تزيد من جهودها. حيث اتصل الرئيس الفرنسي أولاند بنظيره التركي رجب طيب أردوغان، الأسبوع الماضي، من أجل تنسيق الجهود الاغاثية. ويطالب القادة الألمان والفرنسيون بوضع رد موحد للاتحاد الأوروبي ازاء الأزمة.
ويدعو رئيس المفوضية الاوروبية جان كلود يونكر قادة الاتحاد الاوروبي الى قبول المزيد من اللاجئين. وتحت الضغط الشعبي الشديد، قال رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، أن المملكة المتحدة ستستقبل آلافا من اللاجئين، موضحا في وقت لاحق أن العدد محصور بـ 15.000 لاجئ لا غير.
يستدل على أن الأزمة ليست أزمة نظام أو سعة استيعابية، بل أزمة سياسات وضمير، بأن أوروبا هي أكبر وحدة اقتصادية في العالم، وبتعداد سكاني يقارب الخمسمائة مليون انسان، ولكنها لا تزال تفشل في إدارة أزمة اللاجئين. أوروبا تملك من المؤسسات والآليات ما يمكنها من خلاله استيعاب أي عدد من اللاجئين.
تركيا تملك تعدادا سكانيا يقارب الـ 78 مليون، وتستضيف مليوني لاجئ، من سوريا والعراق، بالإضافة الى عدة آلاف قدموا الى تركيا سابقا من البلقان والقوقاز وأفغانستان وغيرها. تركيا، ليست أكبر اقتصاد في العالم، بل حاوية أكبر عدد من اللاجئين في العالم. يملك الأردن ولبنان والعراق ومصر مجتمعين ما يقارب المليوني لاجئ. وحتى الآن، مجموع اللاجئين في القارة الأوروبية بأكملها هو 200.000 لاجئ.
لذلك فإنه من المضلل ادعاء ان هذه الأزمة كبيرة جدا بالدرجة التي لا تستطيع أوروبا الغنية التعامل معها. فقد استقبلت تركيا لاجئين في سوريا والعراق في أسبوع واحد، بمقدار ما تستقبله أوروبا في شهور. لذلك يطالب الرئيس أردوغان القادة الأوروبيين بفعل المزيد، لأنهم قادرون على ذلك.
إن وصول أزمة اللاجئين الى الأرض الأوروبية يكشف اليوم حقيقة مزعجة أخرى، ألا وهي صورة أوروبا الذاتية، وسلوكها تجاه الآخر. فبعض القادة الأوروبيين والمجموعات المناهضة للهجرة تنادي بعدم قبول اللاجئين، من باب أن تدفق اللاجئين من الدول المسلمة سوف يقوض القيم المسيحية لأوروبا. وهذا خطأ على الصعيدين السياسي والأخلاقي.
فمن جانب، ترفض القيم المسيحية ادارة الظهر لمعاناة اللاجئين، وذلك بغض النظر عن دينهم وعرقهم وثقافتهم وأصولهم. فالتمييز بين اللاجئين، وقبول اللاجئين المسيحيين حصريا، مما يعني "استحقاقهم للحماية دون غيرهم" يتناقض مع القيم الدينية والضمير الانساني.
ولحسن الحظ، فإن القادة المسؤولين عن الغرب يردون على هذا الهراء. فقد انتقدت ميركل المجموعات المناهضة للهجرة واللاجئين، وأضافت: "ان فشلت أوروبا في مسألة اللاجئين، فإن ارتباطها الوثيق بالحقوق المدنية العالمية سوف يدمر، ولن تعود أوروبا على الهيئة التي أردنا لها". ودعا البابا فرانسيس، الكاثوليك في أوروبا الى استقبال اللاجئين، كما فتحت العديد من مؤسسات المجتمع المدني أبوابها وبيوتها للعالقين في الموانئ، ومحطات القطارات والمعابر الحدودية.
من الواضح أنه لا بد من خطاب مسألة اللاجئين، ليس السوريين منهم فحسب، بل الصوماليين والأفغان أيضا، إلا أنه من الواجب تناول هذه الأزمة على أنها أزمة مبادئ أوروبية وموقف أوروبا من الأزمة الانسانية التي يمكن حلها.
وفي الوقت الذي يتجهز به القادة الأوروبيون لاتخاذ خطوات فعلية في الأسابيع القليلة القادمة، يحب علينا أن نتذكر المسبب الحقيقي لأزمة اللاجئين. فمعاناة الشعب السوري كضحايا للحرب الوحشية وغير العادلة، سوف تستمر حتى انهاء الحرب في سوريا. فالشعب السوري محاصر ما بين براميل المتفجرات والاسلحة الكيماوية للأسد من جهة، ووحشية تنظيم الدولة (داعش)، من جهة أخرى. لا بد من أن تنتهي لا مبالاة العالم بالمأزق الذي يعانون منه، والذي يستمر لما يزيد عن أربعة أعوام. إن هذا المأزق يشكل عارا على ما يسمى بالعالم المتمدن والمتحضر.