تكشف النجاحات الدبلوماسية التي تحققت وسط الحرب الروسية الأوكرانية عن دور تركيا كقوة استقرار قادرة على إحداث تغيير في المنطقة.
كتب مدير الاتصالات الرئاسية فخر الدين ألطون في كتابه الأخير "تركيا قوة استقرار في عصر الاضطرابات":
"على خلفية انهيار النظام الدولي وتعميق الأزمات الإنسانية وتصاعد العنف، دعت تركيا بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى التعاون الدولي لإيجاد الحلول. وفي الوقت نفسه، اعتمدت البلاد نهجاً أكثر استباقية في السياسة الخارجية مع التركيز على إنهاء النزاعات الدولية طويلة الأمد متجنبةً الوقوع في فخ الفردية".
إن الدبلوماسية مسار معقد وطويل الأمد، ولا يمكن كسب الإنجازات الدبلوماسية بدقيقة واحدة، بل بالجهود طويلة المدى والعلاقات الهامة التي يتم بناؤها بمرور الوقت والسياسات المتسقة. وتعد سياسة "قوة التثبيت" التي تنتهجها تركيا خير مثال على تلك الإنجازات الدبلوماسية.
فبعد فترة طويلة من الجهود بدأت سياسة تركيا تؤتي ثمارها أخيراً. ويساعد كتاب ألطون "تركيا قوة استقرار في عصر الاضطرابات" على فهم الجدول الأخير الذي تم إعداده في إسطنبول للحرب الروسية الأوكرانية والذي يعكس النجاح والمبادئ الأساسية للدبلوماسية تحت قيادة أردوغان.
مسيحيان ومسلم واحد
إن حرب أوكرانيا الحالية أحدث محطة تدركها يد الاستقرار التركية التي وصلت إلى جميع أنحاء العالم. ومن شأن الصورة التي ظهرت بعد خطاب أردوغان أمام الوفدين الروسي والأوكراني قبل المفاوضات في إسطنبول أن تخبرنا بالكثير. فمندوبو الدولتان المسيحية والسلافية الجالسون على جانبي الطاولة، رحبوا جميعهم بأردوغان زعيم الدولة الإسلامية. علاوة على ذلك، كانت روسيا وأوكرانيا عبر التاريخ جزءاً من نفس الإمبراطورية، روسيا القيصرية، وها هو القائد أمامهم يحمل إرث الإمبراطورية العثمانية على كتفيه.
ويمكن سرد العديد من المفارقات الأخرى للتأكيد على البراعة الدبلوماسية في هذا الإطار. فداخل الناتو تركيا هي عضو في الحلف ذي العلاقات الوثيقة مع روسيا وهي الدولة التي كانت سبب وجود الناتو وتأسيسه. وعلى سبيل المثال، جلبت تركيا طاولة السلام التي أقيمت في بيلاروسيا أولاً إلى أنطاليا ثم إلى إسطنبول. وبينما توقع تركيا شراكات استراتيجية في مجال الدفاع والطاقة مع روسيا مثل شراء إس-400 ومحطة أق كويو للطاقة النووية، فقد قدمت العنصر الأكثر نجاحاً في الدفاع العسكري الأوكراني ضد روسيا ألا وهي طائرات بيرقدار المسيرة. وبالمثل، بينما كان رد فعل معظم الدول الأوروبية فاتراً لضم شبه جزيرة القرم، دافع أردوغان الذي يحافظ على علاقات وثيقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عن وحدة أراضي أوكرانيا، وذلك بسبب العلاقات التي أقامها مع روسيا، خاصة مع استمرار ضغوط العقوبات الأمريكية.
الطائرات بدون طيار
لقد كانت قضية مسيرات بيرقدار اختباراً حقيقياً للموقف الغربي غير المتسق، فالغرب فرض عقوبات على الطائرات التركية المسيرة التي لعبت دوراً رائداً في تحرير قره باغ من احتلال أرمينيا، ورفض بيع بعض أجزاء تدخل في بنائها، لكنه الآن يصفق إعجاباً بها ذاتها في أوكرانيا. وبسبب هذه التناقضات الغربية تأسست طاولة السلام في تركيا. وفي الوقت الحالي، نجد النظام العالمي الذي دُمِّر وأُعيد تأسيسه بعد الحرب الباردة يهتز ويتأرجح مرة أخرى، وهو آخذ بالتطور نحو نظام متعدد الأقطاب، الأمر الذي يدفع دولاً مثل الولايات المتحدة، ابتعدت عن كونها مركز السياسة العالمية، للعمل كمعرقل للعبة بدلاً من صناعتها. وتعد التصريحات الصادرة عن واشنطن بعد الرسائل الإيجابية من إسطنبول، والتي تعني "لنكن حذرين، روسيا تضلل العالم بمحادثات السلام" هي مثال جيد على ذلك.
وبالنظر إلى جميع التطورات، يتضح لنا كيف حققت تركيا انتصارات دبلوماسية على خط رفيع، في توازن صعب للغاية. ولهذا نجد أطروحة "تركيا قوة استقرار في عصر الاضطرابات" تكتسب معنىً أكبر.