قام الرئيس أردوغان بتلقين الدوائر التي تتمحور أجندتها الوحيدة حول استهداف الحكومة، درساً في الاقتصاد الجزئي، وسط التطورات الأخيرة.
وقال أحدهم:"أعمل منذ 30 عاماً في تغطية الأسواق الناشئة، ولم أر أبداً تقلبات أسعار الصرف في أي عملة، كما رأيت في تركيا اليوم. ببساطة الأمر لا يصدق".
وقال آخر:"أذهل الزعيم التركي، الأسواق وخصومه السياسيين يوم الإثنين، عندما ربط قيمة بعض الودائع المصرفية لليرة، بالدولار".
وقال ثالث:"الليرة التركية تنتعش بعد أن تعهد أردوغان بدعم الودائع".
ومن الملفت للنظر أن التصريحات أعلاه لم تأت من إحدى وسائل الإعلام التي تعتبر قريبةً من الحكومة التركية، بل جاءت من صحفيين ووكالات أنباء أجنبية.
فالبيان الأول أدلى به الخبير الاقتصادي "تيموثي آش" وانتشر على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، بينما جاء البيانان الآخران من وكالة فرانس برس ووكالة أسوشيتد برس الجديدة، على التوالي. وأشارت هذه التصريحات والعديد من التصريحات الأخرى المماثلة إلى شيء واحد: بالرغم من وجوده في السلطة لفترة طويلة، قام الرئيس رجب طيب أردوغان مرة أخرى بحركة سحرية كما لو أنه سحب أرنباً من قبعة. وها هو قد صدم الأسواق المحلية والمعارضة والعالم مرة أخرى، بحركة غير متوقعة جاءت في لحظة حرجة.
حركة تغير قواعد اللعبة
لم تكن تصريحات أردوغان في 20 ديسمبر/كانون الأول، والتي تسببت في ارتياح كبير في الأسواق، ولا الأحداث التي تلت ذلك، سوى خطوة مطمئنة لقبطان متمرس في بيئة تتسم ببحار عاتية شديدة تجتاح العالم. لقد كشف أردوغان عن بعض الأدوات التي سيستخدمها في معركته التي سماها "حرب التحرير الاقتصادي" ومنها، حساب الودائع بالليرة التركية المفهرس بالعملة الأجنبية، وزيادة مساهمة الدولة في نظام التقاعد الخاص، وسعر الصرف الآجل للمصدرين، وغيرها الكثير.
وجاءت هذه الخطوات الهامة، رداً فصيحاً على محاولة خلق جو من انعدام الأمن في السوق المحلية. أعتقد أن الجميع قد رأى بشكل عملي ما تعنيه إجابة أردوغان "لا يمكنكم التأثير علينا"، خاصة بعد إعلان رابطة الصناعة والأعمال التركية "توسياد" أن "قواعد الاقتصاد المقبولة يجب أن تُعاد بسرعة". وبعبارة أخرى، تلقّى كل من لديه عقلية شبيهة بعقلية توسياد، والذين يتهمون الحكومة بعدم فهم القواعد الأساسية للاقتصاد، درساً في الاقتصاد الجزئي بما في ذلك العرض والطلب وتخصيص الموارد وسلوك المستهلك... والواقع أن هذه الدوائر ذاتها تراجعت بصمت إلى زواياها المظلمة بعد هدوء الأسواق، لأنها هي التي قللت من تقدير خبرة القائد الذي حكم البلاد لما يقرب من 20 عاماً، واتضح لها أنها كانت مخطئةً مرة أخرى. ولست مندهشةً من أن الصحافة الأجنبية، التي تتظاهر بأنها تستمع فقط وتنقل آراء تلك الدوائر، تنشر أيضاً تعليقات وعناوين مشوشة. لقد صارت تركيا، وستظل دائماً، بلداً يغير وجهات النظر الاستعمارية والتقاليد العفنة بكل معنى الكلمة.
نظرة إلى المستقبل
والسؤال الذي يدور الآن في أذهان الجميع هو: مع رسو سفينة الاقتصاد الآن في ميناء آمن، ما الخطوة التالية؟
سيكون هناك استمرار في الخطوات التي ستمنح الثقة للسوق من أجل تثبيت سعر الصرف. والهدف الأساسي هو وقف زيادة الأسعار والتضخم بسبب تقلبات العملة. وهذه الخطوات تمثل المراحل الأولى من سباق الماراثون، إذ أن الثمار الحقيقية للنموذج الاقتصادي الذي يركز على النمو والتوظيف ستُجنى العام المقبل. ومن المتوقع استكمال عام 2021 بأرقام نمو من خانتين، مع استمرار الهدف في الحصول على أرقام أعلى العام المقبل.
ويبقى الجواب الحاسم لادعاء أن عدم الاستقرار السياسي ليس له حل سوى إجراء انتخابات مبكرة، هو هذا النموذج الاقتصادي طويل المدى، والذي لا يعتمد على تدابير هشة واهية ذات تأثير قصير. يجب أن نتذكر أن أردوغان ليس عدّاءاً هاوياً، إنه عداء ماراثون محترف.