يشير تسريب مكالمة هاتفية تمت في 6 فبراير/شباط 2014، بين فيكتوريا نولاند مساعدة وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك، وجيفري بيات سفير الولايات المتحدة في أوكرانيا في ذلك الوقت، أن نولاند أخبرت السفير أن الدبلوماسي الهولندي روبرت سيري سيُرسل إلى شبه جزيرة القرم للتوسط في النزاع بين روسيا وأوكرانيا، بعد لقائه مع بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك. مضيفةً "سيكون ذلك رائعاً للمساعدة في لصق/ تثبيت هذا الشيء وجعل الأمم المتحدة تساعد في لصقه هل أخبرك بشيء، فليذهب الاتحاد الأوروبي إلى الجحيم".
بمجرد أن سمعنا سب فيكتوريا نولاند وإساءتها للاتحاد الأوروبي تجاهلنا تماماً ما قالته قبلها. فما الذي عنته بالضبط نولاند زوجة "المحافظ الجديد" بامتياز روبرت كاغان؟
لقد كانت تشرح للسفير السيناريو الذي كانت تطبخه لشبه جزيرة القرم. وكانت تصف بوضوح كيف يمكن "أن تلصق هذا الشيء وتطلب من الأمم المتحدة المساعدة في لصقه".
لقد كان "هذا الشيء" على ما يبدو هو الوضع المُثير في شبه جزيرة القرم، والشيء الذي كان سيلتصق بمساعدة الأمم المتحدة، هو ما كان يحدث في أوكرانيا منذ عام 2004 تحت اسم "الثورات الملونة". فالانتفاضة المسلحة التي أطاحت بالرئيس الأوكراني المنتخب فيكتور يانوكوفيتش، وقتلت المئات من الأبرياء والشرطة والجنود وحتى أبطال الثورة، قطعت العلاقات الروسية الأوكرانية لمدة 3 سنوات. وأخافت هذه التطورات الروس فيما يتعلق بقاعدتهم البحرية التاريخية في شبه جزيرة القرم، وقررت الأغلبية الناطقة بالروسية في المنطقة من خلال استفتاء، قطع علاقاتها مع البر الرئيسي معلنة الاستقلال عن أوكرانيا.
وكان من المفترض أن يُبقي "الصمغ" الذي تحدثت عنه نولاند شبه جزيرة القرم مرتبطة بأوكرانيا. ولم تنكر الحكومة الأمريكية صحة المحادثة الهاتفية المسربة. وسرعان ما وجهوا أصابع الاتهام إلى السلطات الروسية لوقوفها وراء اعتراض المكالمة وتسريبها. وربما كان الأمر كذلك، لكن هذه النقطة ليست هامة بقدر أن ما كان يحدث في شبه جزيرة القرم كان جزءاً من أفكارٍ صممها المحافظون الجدد للخريطة الجيوسياسية للعالم.
نعم، ففي ذلك الوقت كما هو الحال اليوم، كان الاتحاد الأوروبي منقسماً ولم تكن فرنسا وألمانيا على استعداد للدخول في معركة مع روسيا. لقد كانت راضية عن حقيقة أن أوكرانيا كانت الفناء الخلفي لروسيا، وأن الناتو قد أزعج بالفعل الغرور الروسي بدرجة كافية من خلال توسيع حدوده إلى أطراف أوكرانيا، ورغبة الاتحاد الأوروبي في جلب دول الاتحاد السوفيتي السابق إلى ثناياه ببساطة عن طريق إنشاء منطقة جذابة اقتصادياً.
ولم يكن ذلك مقبولا بالنسبة للمحافظين الجدد الذين كانوا يتشوقون لتفكيك الاتحاد الروسي والصين. بل كانت لديهم خطط ضخمة لبدء تغييرات النظام في تلك البلدان وأي بلدان أخرى اعتقدوا أن فعل ذلك ضروري فيها. ولنتذكر خطة الرئيس الأمريكي جو بايدن لتغيير النظام في تركيا. لقد تفاخر بذلك في مقابلته مع صحيفة نيويورك تايمز.
وإذا واصلنا قراءة توجيهات نولاند للوصول إلى تذكير بيات بأن روسيا لن تجعل عملية الالتصاق سهلة، نجد أن نولاند توافقه وتذكره بأنها حصلت على دعم نائب الرئيس بايدن لخطة شبه جزيرة القرم وربما في اليوم التالي ستحصل على "تفاصيل لتلتزم بها". وفي غضون ذلك، يجب أن يعمل السفير على زعيم المعارضة فلاديمير كليتشكو لنقل انتفاضتهم من كييف إلى شبه جزيرة القرم وأوديسا. وقد نجحت في ذلك إذ تم قتل المئات من المدنيين وعناصر الأمن، وبدأ الجيش الروسي باحتلال شبه الجزيرة.
وقبل أعمال "الالتصاق"، لم يكن الجيش الروسي قد دخل القرم. ولكن بطريقة ما، تم حذف تلك الأشهر من الأنشطة السياسية السلمية للانفصال عن أوكرانيا وإعلان الاستقلال، من الذاكرة الجماعية للعالم الغربي ومقالات ويكيبيديا. واليوم بات العالم يعتقد أن روسيا قد غزت القرم بمجرد فرار يانوكوفيتش من أوكرانيا إلى روسيا.
وتشغل نولاند الآن منصب وكيلة الوزارة وهي تدير الأنشطة اليومية لوزارة الخارجية الأمريكية. أما الشخص الذي اعتاد كتابة مقالات مع زوجها كاغان حول ما يجب أن تفعله الولايات المتحدة بعد فترة الاسترخاء غير المرغوب فيها خلال رئاسة دونالد ترامب من أجل جعل "أمريكا أولاً"، هو رئيسها توني بلينكن ولكن لا بأس لأنه يشاركنا فكرة أن "العالم يبدو أشبه بثلاثينيات القرن الماضي". وتشير كلمة الثلاثينيات في لغة المحافظين الجدد إلى الفترة التي كان الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين مشغولاً ببناء إمبراطوريته. فإذا كان اليوم يشبه الثلاثينيات من القرن الماضي، فمن يعمل إذن في مجال بناء الإمبراطورية؟
لا شك أنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو من يفعل ذلك برأي المحافظين الجدد الذين يعتقدون أن ترامب ساعده في تشديد قبضته على أوكرانيا وجورجيا بسبب علاقته الغرامية الغريبة مع بوتين. لذلك، يجب أن تبدأ إدارة بايدن ونائبة الرئيس كامالا هاريس من أوكرانيا التي تم إنشاؤها بالفعل من النازيين الجدد إلى الشعبويين المتطرفين، ومن الكوميديين إلى المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، كان لدى البلاد كل شيء جاهز لبدء حرب شعبية. والعنصر الوحيد المفقود كان جيش الغزو الروسي. وإذا ما تم دفع زعيم روسي حذر بما يكفي لتكرار ما فعله خلال أزمة القرم، وبدلاً من مقاطعتين في منطقة دونباس، بدأ في غزو البلاد بأكملها، فيمكن للمحافظين الجدد إكمال أعمالهم غير المكتملة هذه المرة بنجاح.
لقد كانت الفكرة آنذاك هي عزل روسيا عن حلفائها التقليديين، وتجنيدهم جميعاً في الناتو والاتحاد الأوروبي. والآن، ربما يمكن للحديث الأساسي عن عضوية أوكرانيا في الناتو وتجديد طلبها في الاتحاد الأوروبي وغرامة المدفعية على الانفصاليين الموالين لروسيا في منطقة دونباس أن يؤدي المهمة.
تم عزل الاتحاد الروسي عن النظام المالي الدولي بعد اجتياحه أوكرانيا وتمت مصادرة مليارات الدولارات الموجودة في البنوك الغربية. وسوف يقضي الغرب على روسيا أكثر. حتى لو غادر بوتين أوكرانيا وشبه جزيرة القرم ومنطقة دونباس، فلن يتم قبوله في النظام المالي الدولي. ويجب أن يكون ممتناً إذا ظل الاستبعاد مقصوراً على النظام المالي ولم يتشجع المحافظون الجدد ويطاردونه في النظام السياسي الدولي، مثل نظام حق النقض التابع للأمم المتحدة البائد بالفعل في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
لقد بدأ بلينكن بالفعل بالقول إن الولايات المتحدة لا تسعى لتغيير النظام في روسيا.