من المفارقات العجيبة أن تتبادر دروس الأخلاق التي تدرس للطلاب في المدارس إلى الأذهان، عند القراءة عن ألعاب القوة التي تُمارس في الطرف الشرقي من البحر المتوسط.
والقضية مرة أخرى هي تنقيب إسرائيل عن النفط والغاز، ونداءات لبنان لوقفها. إذ طلب مجلس الوزراء اللبناني من المندوب الدائم للأمم المتحدة إيقاف تل أبيب بعد منحها شركة "هاليبرتون" الأمريكية، عقد حفر وتنقيب في البحر المتوسط. ومن الواضح أن هذه المناطق تقع خارج حدود المجال الاقتصادي الخالص لإسرائيل، رغم مُضي هذه الأخيرة بالفعل بضخ الغاز من حقول بحرية ضخمة متنازع عليها في لبنان.
وبموجب العقد الممنوح لشركة "هاليبرتون" الأمريكية، ستتعاون الأخيرة مع شركة "إينيرجيان" اليونانية المنتجة للطاقة في حفر 5 آبار شمال حقل "كاريش" للغاز الطبيعي. وكانت الشركة اليونانية اكتشفت قبل 3 سنوات احتياطياً كبيراً من الغاز الطبيعي قبالة الساحل الإسرائيلي. لكن المشكلة الوحيدة هي أن تلك المناطق تقع خارج المناطق الشرعية حيث يمكن لإسرائيل الحفر بشكل قانوني. وبحسب التقديرات الأولية، فإن الاكتشاف الأخير في المنطقة يتراوح بين 28 إلى 42 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي. ومن المتوقع أن تحتوي منطقة الحفر الممنوحة لشركة "هاليبرتون" من خلال العقد على 32 مليار متر مكعب من احتياطيات الغاز، وفقاً لليونانيين.
والواقع أن اليونانيين والأمريكيين متحمسون للغاية لمواصلة "تعظيم قيمة آبار البحر الأبيض المتوسط البحرية الخاصة بهم". لكنهم لا يهتمون إذا كانت أماكن الحفر تقع في مناطق يطالب بها لبنان.
ولماذا عليهم الاهتمام بادعاءات لبنان! والبلد المتوسطي الصغير لا يمتلك سفن حفر وتنقيب مثلما يوجد في كل من إسرائيل واليونان! بالرغم من أن اليونان لا تمتلكها بعد، لكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعد بإرسالها إليهم بمجرد بنائها!
إلى جانب ذلك، ستعمل الحكومة الأمريكية على التوسط في مفاوضات بين إسرائيل ولبنان فيما يتعلق بحدودهما البحرية. وهنا تحضرني صورة خيالية كيف أن ابن أخ الذئب يتوسط بين الذئب والحمل!
وكانت اليونان والإدارة القبرصية الرومية قد دعتا تركيا إلى وقف الحفر قبالة ساحل الجزيرة، وهي المنطقة القريبة من المناطق المتنازع عليها من قبل لبنان، الأمر الذي رفضته تركيا ببساطة، قائلة إن أنشطة الحفر التي تقوم بها في المنطقة مشروعة.
لكن لبنان ليس تركيا:
فقبل توقيع اتفاقية "هاليبرتون" مباشرة، اندلعت الفتنة الداخلية في بيروت، حيث يحيق الخطر بميزان القوى السياسية الهش في البلاد، ما يعزز التوقعات باشتعال حرب أهلية أخرى من العدم! لذلك، حذر زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله المصنف حزبه بين المنظمات الإرهابية، إسرائيل من وقف الحفر حتى يتم حل المشكلة، مهدداً بالتدخل إذا بدأت إسرائيل الحفر. وقال نصرالله "ستعمل المقاومة في لبنان في الوقت المناسب على هذا الأساس". لكن هذا التدخل يعد إرهاباً وسيعقد القضايا ويقتل الأبرياء. وستستفيد إسرائيل من هكذا عمل إرهابي بل ستستخدمه لإضفاء الشرعية على سرقتها لنفط لبنان، وتقوم بمشاركته مع اليونان.
وقد تقرر أن يجري "عاموس هوخستين" ابن شقيق الذئب، الوسيط الأمريكي للمحادثات غير المباشرة، ما يسميه الدبلوماسية المكوكية، على غرار التكتيك الذي جربه قبل عام ولم ينتج عنه أي شيء، بينما تواصل إسرائيل واليونان جمع النفط والغاز من لبنان.
وفي غضون ذلك سيناقش مدنيون إسرائيليون سُذّج، ما إذا كان مقاتلو حزب الله البالغ عددهم 100 ألف كذبة رمزية، أم مجرد كلام، أم أن نصر الله يبالغ في تحذيره لإسرائيل.
وبالنتيجة يبدو صوت الفطرة السليمة في مباراة الصراخ حول حقوق الحفر، مخنوقاً. ومع أن الطقس ليس شديد البرودة في لبنان، إلا أن البلاد تستورد الغاز من إيطاليا وروسيا والكويت. ويمكن لإسرائيل بدلاً من الانخراط في سياسة القوة، أن تكون جارة جيدة وتجلس على طاولة المفاوضات ليس فقط مع لبنان ولكن أيضاً مع الفلسطينيين والمصريين.
وعوداً على ما بدأناه من المفارقات فقد جاء في التوراة التي تقوم عليها مبادئ إسرائيل:"سعيد من التقى بامرأة شجاعة! إنها أثمن بكثير من اللآلئ ". لأنها تعرف المعنى العبري للكرم: "في العطاء نقبل".