في محاولته توضيح ضرورة أن يهتم الاتحاد الأوروبي بالتعامل مع العالم بدلاً من أن يكرس عزلته، كشف مسؤول السياسة الخارجية للكتلة عن الكثير من المعاني المستترة من خلال تشبيه "الحديقة والغابة" الذي استخدمه.
وما من شك أن بعض المقارنات تعني أكثر من مجرد النقطة التي تحاول إظهارها، فهي تكشف عن الحالة العاطفية للشخص وطبيعة القرارات السياسية والشعور بالذات والمخاوف والتحيزات وتصورات الآخرين.
وهذا النوع من التشبيه بالذات هو ما تفوّه به الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل في حديثه في الأكاديمية الدبلوماسية الأوروبية في بروج، حين قال: "أوروبا حديقة... إنها أفضل مزيج من الحرية السياسية والازدهار الاقتصادي والوئام الاجتماعي يمكن للبشرية أن تخلقه. أما بقية العالم فلا ينطبق عليه هذا الوصف. ومعظم دول العالم الأخرى عبارة عن غابة ويمكن للغابة أن تغزو الحديقة. ومن الواجب أن يعتني البستاني بحديقته، لكنه لا يستطيع حمايتها ببناء الجدران حولها".
ورغم أن هدف بوريل كان إيصال رسالة حول مشاركة الاتحاد الأوروبي بشكل أكبر مع العالم بدلاً من أن يصبح منعزلاً. لكن بناءه على استعارة "الحديقة والغابة" للقول بأن بقية العالم يسعى لغزو أوروبا بطرق مختلفة، جاء بمثابة اعتراف يعكس عقلية الغرب المتمحورة حول أوروبا وتفوق العرق الأبيض والاستعمار والعنصرية.
وبالعودة إلى عصر "الحضارة والاستعمار" في الغرب نجد هذه العقلية واضحة ومكشوفة. ويكفي أن نتذكر اللغة التي استخدمتها الولايات المتحدة لتبرير غزوها لأفغانستان والعراق بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، والطريقة التي تحدثت بها عن حرب صليبية قبل أن تستقر على تعزيز الديمقراطية المعتدلة، واستنتاجاتها الاستشراقية التي صورت المسلمين على أنهم إرهابيون. ومن ثم جاء النقد الذاتي لمؤلفي هذه المقولات الذين اعترفوا بوقوع "أخطاء".
مخاوف جدية من الاتحاد الأوروبي
يمكن من تأمل هذه الاستعارة استنتاج أن ملاحظات بوريل سلطت الضوء على المخاوف الجدية لصانعي السياسة الأوروبيين والتي تتجاوز الإحساس بالتفوق المألوف لدى الغرب. وبعبارة أخرى، فإن الاتحاد الأوروبي الذي يحتاج إلى خلق توازن متزامن مع روسيا والمملكة المتحدة وتركيا، لا يزال يفقد السيطرة. فقد أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى لعبها دوراً جيوسياسياً مختلفاً. وبعد استبعاد تركيا لأسباب متنوعة، يواجه الاتحاد الأوروبي حالياً روسيا كعدو، ما يجعل من المنطقي تماماً أن يحاول السياسيون الأوروبيون تحديد ما يجب القيام به، حيث تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا في حدوث أزمة لأوروبا في جميع المجالات من الطاقة إلى الاقتصاد وصولاً إلى القيادة السياسية.
ويعود هذا السعي لأسبابٍ ثلاثة أولها، صعوبة تعزيز تحالف أوروبا عبر المحيط الأطلسي مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ومع ذلك، فإن حقيقة أن المحاولات الغربية لعزل روسيا تؤدي في النهاية إلى ارتباك أوروبا وإلحاق الضرر بها أكثر من غيرها. كما تأمل بعض الحركات القومية اليمينية في إيجاد حلول محلية على عكس الاتحاد الأوروبي. وأخيراً آراء تضم صوت بوريل مفادها أن أوروبا لن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها أو لعب دور مؤثر في عالم يتسم بعدم اليقين على نحو متزايد، ويتميز بمنافسة القوى العظمى، ما لم يتم توحيدها. وبهذا المعنى، فهم يدركون أن الاتحاد الأوروبي لن يكون قادراً على المحافظة على ازدهاره وأمنه وديمقراطيته إذا ما ظل لاعباً ضعيفاً ومشتت. وعلى هذا النحو، يجادل الأوروبيون بأن الاتحاد يجب أن يكون القلعة التي تتصدى للتهديدات من خلال مد يد العون للعالم بدلاً من أن تصبح معزولة، وهم ليسوا مخطئين في هذا التصور لأن المزيد من الأزمات الجديدة تلوح في الأفق.
من "حديقة" إلى "غابة"
قادت الصراعات التي اندلعت في العراق وسوريا إلى تهديد أوروبا بطالبي اللجوء والإرهابيين. وساد الاعتقاد بأنه كان من الممكن لأوروبا أن تدير هذا الوضع من خلال تجاهل دول مثل تركيا، التي عانت من نفس المشاكل واتخذت احتياطات أمنية معينة. وفي واقع الأمر، فإن إثارة مسألة معاملة اليونان غير الإنسانية لطالبي اللجوء في عدد قليل من التقارير الرسمية ستكون كافية للتخلص من الشعور بالذنب. لكن الحقيقة أن هذه المشاكل تندرج تحت ما أسماه بوريل "الغابة".
لكن رحى الحرب تدور هذه المرة في أوروبا. ولا تمانع الولايات المتحدة ولا الصين ولا الهند ولا القوى الكبرى الأخرى بحرب طويلة الأمد بين روسيا وأوكرانيا أيضاً. وعلى هذا النحو، تواجه أوروبا خطر التوسع الروسي وكذلك العواقب السلبية لذلك الصراع. ولا يزال قادة الاتحاد الأوروبي يفتقرون إلى الإرادة الاستراتيجية المشتركة. وليست سياسة الكتلة تجاه تركيا، والتي تواصل اليونان والقبارصة الروم فرضها، سوى حالة واحدة في صميم الموضوع.
وختاماً أود تذكير بوريل بأن الصراع الداخلي يمكن أن يحوّل "حديقةً" إلى "غابة" دون الحاجة لوجود "غزاة".