احتل الرئيس رجب طيب أردوغان عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم بمساهمته في تسهيل إنشاء "ممر الحبوب" في البحر الأسود بنجاح.
وبرغم الهجوم الروسي على ميناء أوديسا، يعتقد بعض المعلقين أن الهدف منه الإشارة إلى أن الحرب لم تنته بعد. بينما قال آخرون إنها كانت خطوة تكتيكية لإرباك الأوكرانيين. وفي كلتا الحالتين، تحتاج موسكو إلى تقديم نفسها للعالم كقوة تفاوضية وليس مجرد دولة في حالة حرب. وعلى هذا النحو وبالرغم من التأخيرات والعقبات، فإن التنفيذ السليم لصفقة الحبوب يخدم الروس أيضاً.
ولا يخفى على أحد أن دور أردوغان الاستثنائي في صفقة الحبوب أثار الغيرة في عواصم معينة مثل باريس وبرلين. وتساءل البعض عن سبب عدم تمكن السياسيين الفرنسيين أو الألمان من لعب دور الوسيط بشكل فعال.
وكنت في مقال سابق أشرت إلى أن نجاح تركيا لم يكن مصادفة أو نتيجة "السير على حبل مشدود"، لكنه نتيجة سياسة متماسكة متجذرة في التفسير الدقيق للأجواء الدولية الجديدة.
ومع ذلك، أظهر بعض المحللين في الداخل والخارج، أنهم يجدون صعوبة في فهم سياسة أردوغان الخارجية بدليل أنهم استخدموا العديد من التسميات لوصفها من "تحول المحور" من قبل "حليف مثير للغضب ولكن لا غنى عنه"، إلى اتهامات بالانتهازية والتوسع الأيديولوجي وفك العزلة والمرونة الكافية للجلوس على أي طاولة.
وخلال قمة طهران اتُهمت أنقرة بأنها جزء من "تحالف يتحدى الغرب"، لكن بعد ذلك بيومين فقط تم الإشادة بها للمساعدة في إنشاء ممر الحبوب بفضل سياستها المتوازنة.
وفي السنوات الأخيرة، ظلت تركيا بشكل ثابت بنداً على جدول أعمال الحكومات الأجنبية. ولا تزال البلاد تجذب الانتباه في بعض الأحيان من خلال الإصرار على التطبيع. وفي أحيان أخرى، تظهر التصعيد الحازم، بما في ذلك دعمها المشروط لعضوية السويد وفنلندا في الناتو، والتوترات مع اليونان والتزامها بإجراء عملية عسكرية شمال سوريا.
وفي حديثه يوم الأحد في حفل تخرج جامعة ابن خلدون في إسطنبول حيث أعمل كعضو هيئة تدريس، أوضح أردوغان بشفافية النهج الدبلوماسي لتركيا وكيف تختار البلاد اتخاذ المبادرة وفقاً للظروف في هذا العالم متعدد الأقطاب: "يقول بعض أصدقائنا إنهم لا يفهموننا. ويقولون إننا نقاتل كما نتوسط، ويسألون كيف يكون ذلك ممكناً. في الحقيقة، هذا هو المفتاح. فبيت القصيد هو تكوين صداقات، وليس بناء أعداء... لم نخيب أبداً تلك المجتمعات والأمم، ولا أصدقائنا وإخواننا الذين وثقوا بنا من خلال الوقوف معهم في الأوقات الصعبة. لقد أجبرنا كل من يتبنى سياسة معادية تجاه تركيا على إعادة النظر في تلك السياسة والبحث عن طرق للتصالح معنا. وأظهرنا أنه يمكننا الحفاظ على علاقاتنا الإقليمية والعالمية دون تقديم تنازلات فيما يتعلق بالمصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية الخارجية".
ومع أن تركيا تشهد توترات مع بعض الدول بسبب إملاءات مصالحها الوطنية إلا أنها، في ظل الظروف المناسبة ومن خلال الخطوات المتبادلة، يمكنها متابعة التطبيع لأن هذه الصراعات ليس لها جذور أيديولوجية عصية على التوفيق بينها بعكس ما يعتقده البعض.
وفي الوقت نفسه، أثبتت أنقرة استعدادها لتحمل المخاطر عندما تواجه تلك الدول التي تتعاون معها صعوبات. وتشهد العلاقات الثنائية بين تركيا وليبيا وأذربيجان وقطر على هذه الحقيقة. وعلى هذا النحو، يظهر الأتراك أيضاً لجميع الخصوم أن صداقتهم قيمة للغاية. كما أنهم لا يعاملون خصومهم كأعداء دائمين. على سبيل المثال، تمكنت تركيا من تحقيق توازن بين التعاون والمنافسة مع الولايات المتحدة وروسيا وإيران في نفس الوقت الذي يمكنها فيه تصعيد التوترات وكذلك التجزئة حتى عندما يتعلق الأمر بمسائل أمنية جادة مثل سوريا وتنظيم واي بي جي/بي كي كي وجماعة غولن الإرهابية.
وبذلك نجد أن تركيا تتنافس مع الآخرين وتلجأ إلى القوة الناعمة والصلبة حسب الحاجة، لكنها لا تفوت أي فرصة لتعزيز المصالح المشتركة عندما تقدم نفسها. وهذا هو السبب في أن البلاد تمكنت من تطبيع علاقاتها مع البعض بهذه السرعة.
فعندما تكون أية دولة على علاقة جيدة مع أنقرة يعني هذا وجود علاقة قوية يمكنها الاعتماد عليها في الأوقات الصعبة. كما أن التعاون مع أنقرة أكثر قيمة لأنه لا يخجل من التوترات عندما يكون مثل هذا الإجراء ضرورياً. ومن هنا تسقط بعض المفاهيم المغلوطة مثل تحول المحور أو معاداة الغرب أو الانضمام إلى تحالفات جديدة أو التوسعية أو العزلة لتقديم أي رؤى حول السياسة الخارجية الحالية لتركيا. وأردوغان بدوره، ليس "مؤيداً للغرب" أو "معادياً للغرب" ولكنه سياسي "قومي أصيل".