تتجه كل الأنظار نحو العاصمة الإسبانية مدريد التي تستضيف قمة الناتو على مدى 3 أيام، حيث اجتمع أعضاء الحلف الذي قيل عنه إنه "عفا عليه الزمن" منذ 6 سنوات و"ميت دماغياً" قبل 3 سنوات، في قمة "تحولية" حول مستقبل الناتو. ولعب الاجتياح الروسي لأوكرانيا الدور الرئيسي في الانتعاش الاستثنائي للحلف إذ أصبحت روسيا في هذه المرحلة تمثل "التهديد الأكثر أهمية" للأمن الأوروبي الأطلسي، وهو الأمر الفارق في المفهوم الاستراتيجي للناتو لعام 2030 بعد أن كانت "الشريك" في مفهوم عام 2010.
وتنعقد القمة على خلفية اعتراف الاتحاد الأوروبي بأوكرانيا ومولدوفا كدولتين مرشحتين، واستمرار لعبة إلقاء اللوم بين الغرب وروسيا حول من يتحمل المسؤولية عن نقص الغذاء العالمي. ومما زاد الأزمة سخونةً في الأيام الأخيرة، تعهد جنرال روسي "بضرب لندن أولاً" بسبب أزمة كالينينغراد، وسخرية قادة مجموعة السبع من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لركوبه حصاناً وهو نصف عارٍ.
ويتبادل القادة في قمة مدريد التي تعقد مباشرة بعد قمة الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع، وجهات النظر حول مكافحة الإرهاب والدعم الشامل لأوكرانيا و"التحدي" الذي تواجهه الصين وطلبات العضوية من قبل فنلندا والسويد.
ولا يخفى على أحد أن تركيا كانت تعترض على قبول فنلندا والسويد، مشيرة إلى فشل هاتين الدولتين في معالجة مخاوفها الأمنية بعد أن امتنع البلدان عن اتخاذ أية خطوات ملموسة مثل تسليم الإرهابيين ورفع حظر الأسلحة، بحلول الوقت الذي توجه فيه الرئيس رجب طيب أردوغان إلى مدريد.
ومع ذلك، سيتم اجتماع حلف شمال الأطلسي وتركيا وفنلندا والسويد خلال القمة، وإذا تم إحراز بعض التقدم غير المتوقع في ذلك الاجتماع، فستستمر العملية وإلا، سيتعين على فنلندا والسويد الانتظار لفترة طويلة.
ومن المهم تسليط الضوء على مدى إيجابية ملاحظات الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ حول الحاجة إلى معالجة مخاوف تركيا المتعلقة بالإرهاب، لكن وسائل الإعلام الغربية تتهم تركيا كذباً بعرقلة توسع الناتو في وقت حرج. وبالمثل فإن تصريح وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا بشأن تركيا سواء كانت تهدف إلى تقوية الناتو أو تعارض تقويته كان مزعجاً ومجحفاً.
فتركيا التي قدمت مساهمات كبيرة جداً للحلف على مدار 70 عاماً، لطالما أعربت عن دعمها لتعزيز وتوسيع الناتو. وبدلاً من التشكيك في موقفها الحالي، من الضروري تقدير مخاوفها الأمنية ومعالجتها، وخاصة أنها لا تطلب من الدولتين المرشحتين أو من الناتو نفسه تقديم تنازلات بل جل ما تريده هو أن يلتزم الناتو بمبادئ مكافحة الإرهاب الخاصة به تجاه واي بي جي/بي كي كي وجماعة غولن الإرهابية وغيرها. وفي هذا الصدد، تطلب تركيا من السويد وفنلندا اللتين ستتعهد بالدفاع عنهما بموجب مبدأ "الفرد للجميع والجميع للفرد"، أن تعملا كحليفتين حقيقيتين لها.
والواقع أن الشعب التركي ينظر إلى الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة وبعض الحلفاء الآخرين للفرع السوري من بي كي كي الإرهابي على أنه عمل عدائي، ما يؤكد ضرورة تقدير أهمية تركيا لحلف الناتو وتلبية مطالبها المشروعة.
ومع إظهار الناتو تضامناً ملحوظاً في مواجهة التهديد الروسي المستمر إلا أن أحداً لا يتوقع أن تستسلم موسكو بالرغم من احتدام الحرب في أوكرانيا وتطبيق العقوبات الشديدة على روسيا. كما أن موقف التحالف الغربي "القوي والموحد" لا يخلو من المشاكل وخصوصاً أن نفوذ واشنطن المتزايد على أوروبا يرضي أوروبا الشرقية فقط، لكن دول الاتحاد الأوروبي الأخرى لا زالت تسعى وراء الاستقلال الاستراتيجي. وبالمثل، فإن المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا لا تؤيد حرق كل الجسور مع روسيا.
ولا يزال من غير الواضح كيف ستكون علاقة أوروبا مع روسيا على المديين المتوسط والبعيد، بينما من الواضح أن حالة القتال المستمر ستضر بأوروبا، كما أن دول الاتحاد الأوروبي لا تريد أن تدفع الولايات المتحدة الناتو إلى تبني موقف مناهض للصين أيضاً.
وفي الوقت الذي يتم فيه إعادة تشكيل الهيكل الأمني الغربي، تبرز تركيا كقوةٍ تولد الاستقرار والأمن في محيطها الذي يشتمل على آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان والشرق الأوسط والخليج وشمال إفريقيا، ولا بد من القول أن معالجة مطالب تركيا المشروعة بالأمن، سيؤدي حتماً إلى تقوية الجناح الجنوبي الشرقي لحلف شمال الأطلسي.