يستمر الجدل حول قرارات السياسة الخارجية التركية المتعلقة بمواجهة الأزمة المتصاعدة في إدلب. وقد تنوعت الخطابات وتعددت حول التوترات مع روسيا، وأهمية تصريحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وواجبات تركيا في إدلب.
ينظر بعض المراقبين إلى التزام تركيا بوقف عدوان نظام بشار الأسد الأخير على إدلب على أنه دعم منقطع النظير لـ"هيئة تحرير الشام" وغيرها من الجماعات المتطرفة في المدينة. ويتساءلون عن جدوى علاقة تركيا بما يصفونهم بـ"الجهاديين". بينما يقول آخرون إن تركيا تحارب ضد الهيئة وغيرها من الجماعات المتطرفة من أجل إنشاء منطقة آمنة في إدلب. وهم بدورهم يتساءلون لماذا على القوات التركية أن تقوم بتطهير المنطقة لصالح نظام الأسد.
رغم أن معظم الداعين لإجراء حوار مع بشار الأسد التزموا الصمت منذ استشهاد ثمانية جنود أتراك في هجوم شنه نظامه، لا يزال آخرون يصرون على إجراء محادثات مباشرة معه.
ولكي نكون واضحين، فمن الطبيعي في ظل النظم الديمقراطية أن يكون هناك نقاش عام حول السياسة الخارجية، وخرائط الطرق المتنافسة. لكننا ضمن هذا المسعى، لا بد أن نوضح ماهية المصلحة الوطنية الحقيقية، حيث تتخذ جميع البلدان في نهاية المطاف، قراراتها السياسية الخارجية من خلال تركيزها على تعظيم مصالحها الوطنية.
ومع ذلك، نجد دعوات المعارضة التركية المتعلقة بأزمة إدلب تركز على ما هو أكبر من طبيعة علاقة تركيا مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا.
فقد دعا جزء من المعارضة الحكومة التركية إلى إصلاح علاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أو نظام بشار الأسد. كما حث آخرون صانعي السياسة على عدم السماح للولايات المتحدة بأن تعوق علاقة تركيا "الاستراتيجية" مع روسيا. وذهبت بعض شخصيات المعارضة إلى حد تهديد الرئيس رجب طيب أردوغان علناً بشأن هذه القضية.
إن التزام المعارضة بتحويل مسألة إدلب إلى معركة بين وجهات النظر المؤيدة للولايات المتحدة والموالية لروسيا، هو أمر غريب وغير متوقع بالنسبة لتركيا. هناك مجموعات أو "لوبيات" من المعارضة تعمل على الضغط لصالح الحكومات الأجنبية بوصفها قوى عظمى، بدلاً من السعي لتحقيق مصلحة تركيا الوطنية، كواحد من خيارين حتميين لإيجاد "محور" ثابت للسياسة الخارجية التركية.
ولمعرفة ماهية هذا "المحور" دعونا نتفق على ما يلي:
لم يعد هناك شيء اسمه النظام الليبرالي العالمي، مع إعادة تعريف الولايات المتحدة لدورها العالمي. وباتت المنظمات الدولية في مواجهة مشاكل أكثر خطورة مما كانت عليه في الماضي. واليوم نشهد نشوء عالم جديد متعدد الأقطاب على خلفية تنافس القوى الكبرى. ولم يعد بإمكان محور واحد أو تحالف أو قوة عظمى، تقديم الحلول لجميع المشاكل في بلد معين.
وبما أن التعاون مع القوى العظمى غالباً ما يؤدي إلى علاقات غير متكافئة، يتعين على دول مثل تركيا أن تحلل بدقة الاتجاهات العالمية الناشئة، وتتحمل المخاطر اللازمة لاغتنام الفرص. لقد انتهى زمن البحث عن ملاذ آمن، وصار هذا البحث أقل منطقية في الجوار التركي، حيث يسود الصراع والتوترات الجغرافية السياسية. كذلك يحاول عدد من الدول، التكيف مع هذا الواقع الجديد مثل أوكرانيا وإيران واليونان ومصر ودول الخليج . وبالتالي لا يمكن لتركيا أن تعتمد على سياسة القطب الواحد بسبب هياكلها السياسية الداخلية وكثرة المشاكل في جوارها.
هناك فرق بين العلاقات الاستراتيجية والاعتماد على جانب واحد. إن "العلاقات الاستراتيجية" التي تعمل تركيا على إقامتها مع الولايات المتحدة وروسيا، معرضة بالذات للتوترات، لأنه لا مجال فيها للاعتماد على جانب واحد.
فهل يعقل أن تتوقف تركيا عن قتال الجماعات الإرهابية مثل ي ب ك/بي كا كا، أو جماعة "غولن" الإرهابية، لتجنب التوترات مع الولايات المتحدة فقط؟ وهل يمكن أن تتخلى تركيا عن الطاقة النووية أو صناعاتها الدفاعية المحلية؟ الجواب هو لا.
الشيء نفسه ينطبق على روسيا. فهل يستطيع الأتراك ترك ملايين اللاجئين من إدلب يعبرون حدودهم الجنوبية، لاسترضاء الروس فقط؟ وهل يمكن أن تغض تركيا الطرف عن تهديدات نظام الأسد ضد الأمن القومي التركي؟ والجواب هو لا، مرة أخرى.
من المنطقي أن تعزز تركيا التوازن والعقلانية والخيارات الصحيحة في علاقاتها الثنائية، لأن الشراكة الاستراتيجية، في عالم اليوم، لا تعني بالضرورة اختيار كتلة آيديولوجية. كما أن الاعتماد على جانب واحد، سيجبرنا في النهاية على التوقف عن متابعة مصالحنا الحيوية. لذلك، لا يمكن لتركيا أن تصغي إلى الخطاب الآيديولوجي المشحون للجماعات الموالية للولايات المتحدة أو الموالية لروسيا أو الموالية لإيران أو الخليج.
فهذه الجماعات وغيرها لا زالت تبحث عن ملاذ آمن، خوفاً من عالم جديد يتشكل. ومع ذلك، فإن البقاء على قيد الحياة في بيئة العالم الجديد، يتطلب من المقاومة والروح القتالية بقدر ما يتطلب من المصالحة والتسويات. والمصلحة الوطنية هي المحور الوحيد لسياسة تركيا الخارجية.