تبذل تركيا جهوداً دبلوماسية كبيرة من أجل التوصل إلى هدنة تسمح بوقف إطلاق النار في ليبيا والانتقال بهذا البلد إلى السلام الدائم والازدهار. ويوم الاثنين الماضي زار رئيس الوزراء الإيطالي "كونتي" العاصمة التركية أنقرة بعد زيارة رئيس الوزراء الليبي "فايز السراج" مباشرة. وفي اليوم نفسه، عمل كلاً من وزير الخارجية التركي ووزير الدفاع ورئيس الاستخبارات في موسكو على تسهيل المحادثات بين مختلف الفصائل المتحاربة في ليبيا.
كما عمل كلاً من الزعيمين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين بجد خلال لقائهما في 8 يناير، للنهوض بالأوضاع المتأزمة في ليبيا والتقدم بها نحو مرحلة أفضل. وبفضل جهود المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي وجهت دعوة لكل من أردوغان وبوتين لحضور مؤتمر برلين، ستجتمع الأطراف الرئيسية الثلاثة حول طاولة المفاوضات قريباً. وتعد زيارة الرئيس التركي المرتقبة إلى برلين شاهداً على التعاون القوي بين تركيا وروسيا وألمانيا. فالمستشارة الألمانية ميركل تعمل قبل تنحيها عن منصبها كقائدة متمكنة ليس لألمانيا فحسب بل لأوروبا أيضاً. ومن المتوقع أن تتفاقم أزمة القيادة الأوروبية في أعقاب رحيل ميركل.
لقد سعى الرئيسان أردوغان وبوتين بجهد منقطع النظير لجعل وقف إطلاق النار ممكناً في ليبيا. وكان للدروس المستفادة من سوريا تأثير إيجابي على الوضع الذي يشهد تحسناً سريعاً في ليبيا. كما نجحت تركيا وروسيا في إصلاح علاقتهما منذ توترها في أعقاب سقوط الطائرة الروسية عام 2015، وتغلبت الدولتان على العقبات التي اعترضت عملهما المشترك في إطار عملية أستانا.
وبالرغم من أن الوضع في ليبيا معقد بشكل أكثر مما يبدو عليه، لكن الزعيمان استطاعا إحداث فرق على الأرض بإلقاء ثقلهما لتحقيق المصالحة في البلاد. لقد نجحت تركيا وروسيا في التغلب على خلافاتهما الإستراتيجية، وكذلك نجحتا في ربط مصالحهما معاً حول قضايا محددة، مثل الوضع في إدلب وتنظيم ي ب ك/بي كا كا الإرهابي. وهنا يكمن فشل واشنطن في التعامل مع تركيا.
لقد قدم الرئيس التركي مبادرات حقيقية لإصلاح علاقة بلاده بالولايات المتحدة. ورغم العلاقة الشخصية التي بناها ترامب مع أردوغان، إلا أنه فشل في الارتقاء بمستوى العلاقة إلى التوقعات اللازمة لنجاح علاقات الشراكة والعمل. وحوّل الكونغرس الأمريكي سياسة الولايات المتحدة تجاه تركيا، إلى رهينة يلوّح بها كلما زاد تقارب أنقرة مع موسكو. وراح التصدع في العلاقات التركية الأمريكية يزداد بسبب محدودية التفكير الإستراتيجي لبعض الدوائر السياسية في واشنطن، حيث واصلت أمريكا تفويت الفرص المختلفة للتعاون في العراق وليبيا وأماكن أخرى. كذلك فعلت في شرق المتوسط ، إذ راحت ترتكب أخطاء متزايدة بدلاً من تقاربها مع تركيا وروسيا. في غضون ذلك، ظهرت ساحة جيوسياسية جديدة تضم إيران والعراق وشرق المتوسط وليبيا. ولم تدرك الولايات المتحدة أن تشكيل الشراكات الدائمة في المنطقة يتولد من حرص كل دولة على التعاون مع الآخرين.
واليوم يتعين على تركيا مع قبولها طلب ليبيا بالمساعدة العسكرية، مواصلة فعل كل ما يلزم لضمان استمرار تحسن الأوضاع في البلاد مثل أن يكون لتركيا حضور قوي على الأرض بهدف الضرب على يد حفتر الذي يحاول نسف اتفاق وقف إطلاق النار وبالتالي يجب تنفيذ اتفاق التعاون العسكري بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني بالكامل.
علاوة على ذلك، يجب على تركيا تعزيز موقفها بالعمل مع روسيا وألمانيا والجزائر وتونس وإيطاليا.
كما تحتاج أنقرة إلى المحافظة على تواصل وثيق مع جميع اللاعبين المقربين من الحكومة الشرعية في طرابلس، في الوقت الذي تحاول فيه الإمارات العربية المتحدة استقطاب مجموعات معينة بعيداً عن معسكر الشرعية.
ويجب على تركيا أن تشرح طبيعة وقف إطلاق النار وتنقل أهميته إلى جميع أصحاب المصلحة على الأرض. وعليها المساعدة في حل الخلافات بين هذه المجموعات وتعزيز الثقة المتبادلة بينهم.
كذلك يتعين على الحكومة التركية الاتصال بالمجموعات المحلية بالقرب من طبرق التي يتخذها حفتر معقلاً له، بهدف الضغط عليه للوصول إلى تسوية سياسية.
ومن أجل أن تصبح المناطق التي تسيطر عليها حكومة الوفاق الوطني مثالاً يحتذى به في بقية أنحاء البلاد، لا بد أن تستثمر تركيا في البنية التحتية المدنية، كالكهرباء ومياه الشرب ومشاريع الصرف الصحي، مع توجيه الجهود لإعادة هيكلة جميع القطاعات، بما فيها الإدارات العامة والمؤسسات الأمنية.
وعندما يسود السلام والاستقرار في ليبيا، سيمتدح العالم بأسره قيادة أردوغان وبوتين ويعترف بفضلهما.