لأن جانباً من جوانب المشاكل التي واجهت العلاقات التركية الأمريكية منذ تولي الرئيس جو بايدن السلطة يتمثل في تراجع دبلوماسية القادة لحساب الدبلوماسية الأقل المستوى، فإن عقد محادثات بين الرئيسيين إن على شكل قمة أو على شكل محادثة هاتفية كتلك التي جرت الخميس الماضي، يحظى بكثير من الاهتمام. وما يزيد من أهمية المحادثة الهاتفية الأخيرة أنها كانت الأولى منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس قبل أكثر من شهرين وجاءت في خضم بعض التطورات المهمة التي طرأت في الآونة الأخيرة على العلاقات التركية الأمريكية وعلى العلاقات التركية الغربية عموماً.
لذلك، يُمكن النظر إلى أهمية هذه المحادثة على ثلاثة مستويات رئيسية هي الحرب على غزة وآفاق الانفراجة الجزئية التي طرأت على العلاقات التركية الأمريكية منذ القمة الأخيرة للزعيمين في فيلنيوس في يوليو/تموز الماضي، ومسار العلاقات التركية الغربية التي دخلت منعطفاً جديداً منذ أن بدأت أنقرة مساعي لإصلاح هذه العلاقات عقب فوز أردوغان بولاية رئاسية ثالثة.
من الواضح أن الدعم الكامل الذي تُبديه إدارة بايدن لإسرائيل في حربها على قطاع غزة وتحديها لرغبة دول المنطقة بإنهاء الحرب ووقف دائم لإطلاق النار أضافا تعقيداً جديداً للعلاقات الغير مستقرة أساساً بين أنقرة وواشنطن. لكن ما بدا في الآونة الأخيرة أنّه تحول في الموقف الأمريكي نحو انتقاد الهجمات الإسرائيلية العشوائية على المدنيين في غزة ووضع بعض الخطوط الحمراء أمام إسرائيل مثل معارضة إعادة احتلالها للقطاع وتقليص مساحته ورفض تهجير الفلسطينيين، والدفع باتجاه إطلاق عملية سلام جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين لتحقيق حل عادل وشامل للصراع، يخلق جزئياً أرضية مشتركة لإمكانية التعاون بين الولايات المتحدة وتركيا في هذه الحرب. مع ذلك، فإن البوابة الرئيسية لمثل هذا التعاون تمر أولاً بإنهاء هذه الحرب وليس إيجاد إطار مختلف لها على غرار ما تسعى إليه واشنطن حالياً من خلال الضغط على إسرائيل للتحول من المناورات العسكرية الواسعة إلى تنفيذ عمليات محددة ضد حركة حماس. قبل المحادثة الهاتفية بين بايدن وأردوغان، كانت دبلوماسية الحرب الأمريكية أقل نشاطاً مع تركيا مقارنة بدول المنطقة الأخرى، ويرجع ذلك على الأرجح إلى مواقف أردوغان المنددة بشدة بإسرائيل ودعمه لحركة حماس باعتبارها منظمة تحرر وطني، لكن بايدن أدرك الحاجة المتزايدة لدور تركيا في إنهاء الصراع.
حقيقة أن أنقرة تتبنى نهجاً عقلانياً في مقاربة الحرب ولا تزال تحتفظ بعلاقاتها مع إسرائيل وتحظى بثقة عالية لدى الفلسطينيين عموماً وحركة حماس على وجه الخصوص، تمنحها ميزة القدرة على لعب دور الوسيط لإنهاء الحرب بقدر أكبر من أي طرف إقليمي آخر. لقد أثبت الانسداد الدبلوماسي في هذه الحرب مع استثناء بعض الخروقات التي تحققت حتى الآن على غرار رعاية قطر لصفقة تبادل الأسرى الجزئية بين إسرائيل وحماس أن الدبلوماسية التركية لا غنى عنها بالنسبة للولايات المتحدة لجعل دبلوماسية الحرب أكثر قدرة على الإنجاز. إن تركيا علاوة على أنها تلعب دوراَ محورياً في الدبلوماسية العربية والإسلامية لإنهاء الحرب، فإن إظهار استعدادها للمشاركة في الهيكل الأمني المحتمل لغزة بعد الحرب والمساهمة في إعادة إعمارها وتقديمها لمقترح الدول الضامنة لرعاية عملية سلام جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يجذب الاهتمام الأمريكي لأن واشنطن تواجه مٌعضلة إقناع حلفائها في المنطقة لدعم رؤيتها لكيفية إنهاء الحرب.
على صعيد العلاقات التركية الأمريكية، بالرغم أن قمة فيلنيوس خلقت آفاقاً لفتح صفحة جديدة في العلاقات، إلآّ أن القليل للغاية تم إنجازه منذ تلك الفترة. علاوة على ذلك، عادت قضية الخلاف الأساسية بين البلدين والمتمثلة بالدعم الأمريكي لتنظيم واي بي جي الذراع السوري لمنظمة بي كا كا الإرهابية، لتفرض نفسها من جديد على قائمة الأولويات في هذه العلاقات منذ الهجوم الإرهابي لمنظمة بي كا كا في العاصمة أنقرة مطلع أكتوبر الماضي. لكن إصرار الولايات المتحدة على الحفاظ على علاقتها بمنظمة واي بي جي لا يزال يقوض فرصة فتح صفحة جديدة في العلاقات. مع ذلك، فإن النهج الإيجابي الذي تتبناه كل من تركيا والولايات المتحدة في ملف عضوية السويد في الناتو وملف بيع تركيا مقاتلات إف ستة عشر الأمريكية يُظهر قدرة الطرفين على العمل الإيجابي في بعض القضايا. لكن، وقبل الوصول إلى بعض النتائج الجيدة، فإنه من الواضح أن مصادقة البرلمان التركي على عضوية السويد في الناتو لا يُمكن أن تتحقق قبل أن تُقدم واشنطن على خطوة كبيرة في ملف بيع تركيا مقاتلات إف ستة عشر. أبلغ بايدن أردوغان رغبته في تسهيل هذه العملية ووعد بعرضها على الكونغرس قريباً ولا تزال أنقرة تنتظر الأفعال التي تًصدق الأقوال الأمريكية.
أما بالنسبة للعلاقات التركية الغربية، فإن الأجندة الإيجابية التي شرعت بها أنقرة في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي منذ فوز أردوغان بولاية رئاسية ثالثة والزيارة التاريخية التي أجراها أردوغان مؤخراً إلى اليونان تُساعد في توفير بيئة عمل مناسبة بين أنقرة وواشنطن. لأن الخلافات التركية اليونانية والعلاقات المضطربة بين أنقرة والاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة ألقت بظلالها على العلاقات التركية الأمريكية، فإن النهج الجديد الذي يتبناه أردوغان تجاه أثينا وبروكسل يعمل كحافز إضافي للرئيسين أردوغان وبايدن لجعل دبلوماسية القادة بينهما مُثمرة بقدر أكبر. إن تركيا لا تزال تنظر إلى الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة والغرب عموماً على أنها حاجة لها، ويبدو أن قناعة مماثلة تشكلت على نحو متزايد لدى الغرب أيضاً منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا وما أفرزته من تحديات جديدة هائلة على العلاقات بين ضفتي الأطلسي. لم يتبقى لرئاسة بايدن سوى أقل من عام، ومن غير المرجح أن تكون فترة كافية لإصلاح العلاقات التركية الأمريكية بالقدر الذي تطمح إليه أنقرة، لكنّ دبلوماسية القادة لا تزال ضرورية لتحقيق بعض الخروقات.