هناك بعض الحقائق المهمة التي تُعزز هذا التصور. فمن جهة، عاد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليلعب دوره القوي في تشكيل السياسات الإقليمية والدولية في المنطقة بعدما تراجع بشكل حاد في العقدين الماضيين لصالح قضايا أخرى مثل الغزو الأمريكي للعراق وتداعياته الكبيرة على الجغرافيا السياسية الإقليمية، وتصاعد الدور الإقليمي لإيران منذ تلك الفترة، فضلاً عن الاضطرابات الواسعة التي دخلتها المنطقة العربية بعد الربيع العربي في عام 2011. ومن جانب آخر، تخلق الحرب فرصة للولايات المتحدة لإعادة تأكيد حضورها كقوة عالمية مُهيمنة في الشرق الأوسط بعد الشكوك التي أحاطت بمستقبل دورها في السنوات الأخيرة وبروز أدوار قوى عالمية أخرى في المنطقة مثل روسيا والصين. مع أنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت واشنطن قادرة أو راغبة بالفعل في العودة القوية إلى الشرق الأوسط، إلاّ أن تحركاتها بهذا الصدد تُعزز صراع القوى الكبرى على النفوذ في المنطقة.
قبل الحرب، كانت الولايات المتحدة تعمل على تشكيل نظام إقليمي جديد يدمج إسرائيل في المنطقة ويهدف إلى تمكين حلفائها الإسرائيليين والدول العربية الفاعلة في إدارة شؤونهم باعتماد أقل عليها وتشكيل تكتل أمني قادر على احتواء الطموحات الإيرانية في الشرق الأوسط. ولهذه الغاية، رعت واشنطن اتفاقات السلام بين إسرائيل وبعض الدول العربية قبل سنوات، وسعت قبل الحرب إلى التوسط في اتفاق سلام بين إسرائيل والسعودية. مع أن واشنطن لا تزال تفترض أن المحفزات لدى الرياض لإبرام هذه الصفقة ستبقى قائمة بغض النظر عن الحرب، إلآّ أن أحد الأهداف التي بدت قبل الحرب أقل أهمية في هذه الصفقة وهي التوصل إلى سلام عادل وشامل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أصبحت بعد الحرب أكثر أهمية. لقد أكد وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح في وقت سابق هذا الشهر، أن سلاماً بين السعودية وإسرائيل لا يزال حاجة للرياض، لكنّه أصبح مرهوناً أكثر من أي وقت مضى بالتوصل إلى سلام شامل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
تبدو واشنطن راغبة أيضاً في الوصول إلى هذه النتيجة بعد الحرب، لكنّ حقيقة أن الحكومة المتطرفة التي تقود إسرائيل الآن لا تُبدي أهمية تُذكر بعملية سلام تُفضي إلى دولة فلسطينية في نهاية المطاف تجعل اليوم التالي لانتهاء الحرب أكثر غموضاً مما يبدو عليه الوضع الآن. لقد كشفت الحرب حقيقة لا تبدو مستساغة لإسرائيل والولايات المتحدة وهي أن تشكيل نظام إقليمي جديد دون تسوية شاملة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي ودون الأخذ بعين الاعتبار موقف إيران منه، كمن يُعالج مُشكلة بمشكلة أكبر. إن استعراض القوة الذي تقوم به إيران عبر وكلائها في المنطقة منذ اندلاع الحرب، أوضح رسالة من جانب طهران بقدرتها على عرقلة الشرق الأوسط الجديد الذي تسعى الولايات المتحدة لتشكيله. في الوقت الذي ينبغي أن تدفع هذه الحرب السياسات الإقليمية والدولية إلى التركيز على سبل معالجة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بشكل شامل، فإن أسئلة اليوم التالي لانتهاء الحرب يجب أن تُركز أيضاً حول جدوى نظام إقليمي جديد لا يأخذ بعين الاعتبار الحاجة إلى إشراك إيران فيه أو على الأقل لا يُشكل تحدياً لطهران ودورها في المنطقة.
علاوة على ذلك، أظهرت الحرب حقيقة أخرى لم يعد بالإمكان تجاهلها وهي أن العلاقات الجديدة الناشئة بين إسرائيل والمنطقة العربية لا يُمكن أن تجعل الشرق الأوسط اكثر استقرارا إذا لم تُقارن بتسوية شاملة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي تُفضي إلى حل الدولتين على حدود عام 1967. قد يبدو الحديث عن مثل هذه الحدود الآن غير واقعي بسبب الاستيطان الإسرائيلي المتغول في الضفة الغربية، والذي يُقوض فرص إقامة دولة فلسطينية على أساس هذه الحدود، إلآّ أنه يبقى الحل الوحيد المُمكن والمعقول لهذا الصراع. وبدونه، فإن منطقة الشرق الأوسط ستبقى رهينة لارتدادات هذا الصراع عليها بشكل مستمر. لقد أظهرت القمة العربية والإسلامية التي عُقدت في العاصمة السعودية الرياض الأسبوع الماضي أن العالمين العربي والإسلامي أعادا وضع القضية الفلسطينية على قائمة أولوياتهما. وفي الواقع، فإن لدى الدول العربية والإسلامية الآن قدرة على التأثير الجماعي بقدر أكبر على ديناميكية القضية الفلسطينية لإجبار إسرائيل على القبول بخيار السلام.
فمن جانب، تُساعد العلاقات الجديدة التي تُقيمها دول المنطقة فيما بينها، والثقل الإقليمي الكبير الذي تُمثله كل من دول الخليج ومصر وتركيا وإيران، في تعظيم التأثيرين العربي والإسلامي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ومن جانب آخر، لم تعد الولايات المتحدة قادرة على تجاهل الحاجة إلى السلام العادل والشامل بين الفلسطينيين والإسرائيليين كونه الوسيلة الوحيدة التي تُساعدها في تخفيف التزاماتها العسكرية في المنطقة والتركيز على تحديات أخرى تواجهها كروسيا والصين.