كان موقفاً حكيماً لأنه وازن بدقة بين الموقف الأخلاقي التركي تجاه القضية الفلسطينية وبين الحاجة إلى تجنب سيناريوهات خطيرة لن تؤدي سوى إلى سفك المزيد من الدماء وربما انهيار الأمن الإقليمي بأسره. من المؤكد أن اجتياحاً برياً إسرائيلياً محتملاً لقطاع غزة سيؤدي إلى اشتعال الأراضي الفلسطينية بأسرها وربما تمتد النيران إلى الداخل الإسرائيلي حيث يغلي المجتمع الفلسطيني هناك بالفعل. كما أن بعض المؤشرات على احتمال انهيار التهدئة على الحدود الإسرائيلية اللبنانية وانخراط حزب الله في الحرب تتزايد بشكل مخيف. بعض الجبهات الأخرى مثل جنوب سوريا مرشحة أيضاً للانخراط في هذا الصراع في حال تفاقمت الأوضاع. في هذه اللحظة الخطيرة للغاية من تاريخ القضية الفلسطينية والشرق الأوسط، سيتعين على القوى الوازنة في المنطقة مثل تركيا والعالم العربي تركيز الجهود على كيفية تهدئة حدة التوترات وتحويلها إلى فرصة لإعادة تنشيط عملية السلام في الشرق الأوسط.
من المعلوم أن حقبة جديدة في العلاقات التركية الإسرائيلية كانت قد بدأت منذ زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إلى أنقرة قبل نحو عام ونصف. وقد تعززت هذه الحقبة باللقاء الذي جمع الرئيس رجب طيب أردوغان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الشهر الماضي. كان من المُخطط أن يتبادل أردوغان ونتنياهو الزيارات في الفترة المقبلة. كما أن الجانبين يرغبان بشدة في التعاون في مجال تصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا. من غير المؤكد أن كل ذلك سيحصل إذا ما تطورت المواجهة الحالية بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة إلى حرب شاملة. عند وصول الأمور إلى هذه النقطة، ستتحول أولويات تركيا إلى إظهار المعارضة التامة لأي خطوات إسرائيلية من شأنها أن تتسبب ببحر من الدماء في الأراضي الفلسطينية. من غير المتصور بأي حال أن تبقى العلاقات الجديدة بين تركيا وإسرائيل مستقرة لفترة أطول في ظل مخاطر الحرب الشاملة. تكمن أهمية إعادة ضبط العلاقات التركية الإسرائيلية في أنها تُساعد أنقرة في لعب دور أكثر فعالية في تهدئة حدة التوترات.
مع ذلك، يجب علينا أن نتحلى بالواقعية بعض الشيء. إن الظروف التي أدت إلى وصول التوترات بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى هذا المستوى الخطير تكمن أولاً في الأجندة المتشددة لأكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ إسرائيل والساعية إلى تصفية القضية الفلسطينية تماماً، وثانياً في الشعور المتزايد في إسرائيل بأنها قادرة على إنهاء عزلتها الإقليمية والتطبيع مع محيطها العربي دون الحاجة إلى تقديم خطوات جوهرية للفلسطينيين تُعزز حلمهم بإقامة دولة مستقلة. علاوة على ذلك، فإن انهيار مفهوم الردع الإسرائيلي بعد هجوم حماس على إسرائيل، يجعل من الصعب على الإسرائيليين قبول التهدئة قبل إعادة الاعتبار لهذا المفهوم. مع ذلك، فإن الحقيقة التي يتعين على إسرائيل إدراكها اليوم أن مفهوم الردع الحقيقي لا يُمكن أن يتحقق بدون الانخراط في عملية سلام مع الفلسطينيين. لقد أمضى نتنياهو خمسة عشر عاماً في السلطة من أجل إنهاء حكم حركة حماس في قطاع غزة وفرض حصاراً مطبقاً على القطاع وشن العديد من الحروب الدموية وأقام نظام ردع أمني وعسكري كان يُنظر إليه قبل السابع من أكتوبر على أنّه عصي على الاختراق. رغم ذلك، استطاعت حركة حماس شن هجوم كاسح يُعادل في تداعياته عقوداً مجتمعة من الصراع.
هذا الوضع المعقد والخطير يقوض من قدرة تركيا والقوى الفاعلة في المنطقة على التحرك من أجل تهدئة التوترات. ضف إلى ذلك أن التوترات المتزايدة بين أنقرة وواشنطن بسبب الدعم الأمريكي لتنظيم "واي بي جي" الذراع السوري لمنظمة "بي كاكا" الإرهابية في سوريا لا يُساعد في خلق بيئة مناسبة أمام أنقرة وواشنطن للعمل سوياً من أجل نزع فتيل التصعيد في الأراضي الفلسطينية. مع ذلك، من المهم أن تحافظ تركيا على الموازنة بين دعم الحقوق المشروعة للفلسطينيين وبين الانخراط في جهود الوساطة لأن هذه الدبلوماسية هي الوحيدة القادرة على تجنيب الشرق الأوسط ويلات جديدة. على غرار دول المنطقة الأخرى التي من المؤكد أنها تستعد لسيناريو حرب واسعة النطاق في المنطقة، سيتعين على تركيا الاستعداد لهذا السيناريو الذي سينعكس بشكل مباشر على مصالحها في المنطقة عموماً. من المرجح أن تنظر التنظيمات الإرهابية مثل "بي كا كا" والميليشيات الموالية لإيران في إلى فوضى إقليمية واسعة النطاق على أنها فرصة للتحرك بفاعلية أكبر في المناطق التي تنشط فيها لأن هذه المنظمات عادة ما تنتعش من الفوضى. من المهم أن تُحافظ تركيا على نشاط عملياتها الجديدة لمكافحة الإرهاب في شمالي سوريا والعراق بوتيرة قوية بمعزل عن التطورات الإقليمية.
مع تضاؤل فرص التهدئة بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتفاقم مخاطر حرب واسعة النطاق، سيتعين على تركيا الاستعداد لسيناريو انهيار محتمل للأمن الإقليمي وتركيز جهودها على الحد من مخاطر هذا السيناريو على مصالحها الحيوية في المنطقة.