لم يكن مستغرباً أن يزور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إقليم ناختشيفان الأذربيجاني بعد أسبوع فقط على النصر العسكري الجديد الذي حققته باكو ضد الانفصاليين الأرمن في قره باغ وإجبارهم على الاستسلام. يجمع تركيا وأذربيجان تحالف استراتيجي عميق يرتكز على مبدأ "شعب واحد في بلدين". وقد تعمّق هذا التحالف بشكل كبير في حرب قره باغ الثانية قبل ثلاث سنوات عندما قدّمت تركيا دعماً عسكرياً قوياً لأذربيجان ساعدها في عكس مسار الصراع لصالحها منذ تلك الفترة. مع أن أنقرة لم يكن لها دور مباشر في الهجوم الأذربيجاني الخاطف ضد الانفصاليين في التاسع عشر من سبتمبر الجاري، إلآّ أنّ بصمتها كانت حاضرة ويُمكن ملاحظتها بوضوح من خلال الدعم السياسي القوي لباكو وأيضاً من خلال الطائرات المسيرة التي سبق أن زودتها لأذربيجان، والتي كانت حاسمة في تحييد البنية العسكرية التحتية للانفصاليين بسرعة قياسية على غرار حرب 2020.
في الواقع، يُظهر الأذربيجانيون امتناناً كبيراً لتركيا التي ساعدتهم على مدى سنوات في تحديث قوتهم العسكرية وطرح قضية قره باغ باستمرار في المحافل الدولية.
في حين أن الزيارة الأولى التي أجراها أردوغان إلى أذربيجان بعد فترة وجيزة من نهاية حرب قره باغ الثانية، والتي شهدت وقتها توقيع إعلان شوشة التاريخي الذي رفع العلاقة بين البلدين إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، فإن زيارة أردوغان لإقليم ناخاتشيفان، علاوة على كونها ستُعزز هذه الشراكة، فإنها ستُحدد أيضاً الأهداف المستقبلية الأكثر أهمية في هذه الشراكة خصوصاً على صعيد التنسيق الثنائي في الجغرافيا السياسية الجديدة التي تتشكل في جنوب القوقاز. إن اختيار ناختشيفان تحديداً للزيارة يكسبها بُعداً آخر مهماً ويُظهر حرص أنقرة وباكو على المضي قدماً في تنفيذ مشاريع النقل والمواصلات التي تم الاتفاق عليها مع أرمينيا في وقف إطلاق النار قبل ثلاث سنوات. لا تزال أرمينيا مترددة في تنفيذ التعهدات التي قدمتها بخصوص ممر زنغزور الذي سيربط أذربيجان بإقليم ناختشيفان وصولاً إلى الأراضي التركية إما بسبب شعورها بمرارة الهزيمة في قره باغ أو رغبتها في تحسين شروطها التفاوضية مع أذربيجان على إبرام سلام شامل أو كليهما معاً. لكنّ يريفان لم تعد في موقف يُتيح لها فرض شروطها لأنّ التهرب من استحقاق السلام ينطوي على مخاطر تعميق ضعفها الجيوسياسي في الجغرافيا السياسية المتغيرة في جنوب القوقاز.
على الرغم من أن التحالف الاستراتيجي بين تركيا وأذربيجان قوي بما فيه الكفاية، إلآّ أن انتصار باكو في صراع قره باغ يُشكل في الواقع حافزاً قوياً لأنقرة لتبني مقاربة جديدة للوضع في جنوب القوقاز تولي أهمية لتعظيم فرص السلام الشامل بين أذربيجان وأرمينيا. بينما كان الاحتلال الأرمني لقره باغ خلال العقود الثلاثة الماضية عائقاً رئيسياً أمام تطبيع العلاقات بين أنقرة ويريفان، فإن تركيا تتعامل مع استعادة أذربيجان السيطرة على الإقليم على أنها فرصة ثمينة للانخراط في جهود تحويل جنوب القوقاز إلى منطقة سلام وتطبيع علاقاتها مع أرمينيا والتركيز على الدبلوماسية كسبيل لتفعيل مشاريع النقل والمواصلات الجديدة. يتمثل التحديان الأساسيان بعد نصر أذربيجان في قره باغ في تهيئة الظروف المناسبة أمام باكو ويريفان للمضي قدماً في مشروع السلام الشامل، وفي ترجمة مشروع ممر زنغزور على أرض الواقع. إن هذا المشروع لا يكتسب أهمية لتركيا من كونه سيُعظم فرص التعاون الإقليمي بين دول المنطقة في مجال التجارة فحسب، بل يُعد محورياً في طموحات أنقرة لإيجاد رابط بري بينها وبين العالم التركي في آسيا الوسطى. تُقدم تركيا اليوم نفسها كبوابة لمنطقتي جنوب القوقاز وأسيا الوسطى لتعظيم دورهما في التجارة العالمية بالنظر إلى موقعها الجيوسياسي المتميز.
كما أن فوائد ممر زنغزور لن تقتصر فقط على تركيا وأذربيجان والعالم التركي، بل تشمل جميع دول المنطقة بمن فيها أرمينيا. علاوة على أن تنفيذ هذا الممر سيُحسن إلى حد كبير فرص تطبيع العلاقات بين يريفان وأنقرة، فإنه سيجلب فوائد اقتصادية كبيرة لأرمينيا. يبرز اعتراض إيران على فتح هذا الممر لاعتبارات جيوسياسية كإحدى العقبات الرئيسية التي تواجه تنفيذه. تُبدي تركيا في الواقع حساسية تجاه الهواجس الإيرانية وقد سبق أن عرضت تشكيل آلية سداسية تشملها إلى جانب روسيا وأرمينيا وأذربيجان وإيران وجورجيا لتعزيز الاستقرار في جنوب القوقاز وتفعيل مشاريع التجارة. تٌقدم الدبلوماسية التركية في جنوب القوقاز نموذجاً مهماً للدبلوماسية الإقليمية للعمل الجماعي من خلال التركيز على الفوائد الاقتصادية كأرضية لتجاوز الخصومات السياسية.
في ضوء ذلك، يُمكن تلخيص استراتيجية تركيا في جنوب القوقاز بعد نصر أذربيجان بأربعة أهداف:
ـ أولاً، دفع مساعي السلام الشامل بين أذربيجان وأرمينيا من خلال نهج الانفتاح الذي تتبناه أنقرة في تفاعلاتها الجديدة مع أرمينيا.
ـ تركيز الجهود على تنفيذ مشروع ممر زنغزور لتنشيط التجارة الإقليمية التي ستعود بالفوائد على جميع دول المنطقة دون استثناء.
ـ تحفيز إيران على الانخراط في جهود السلام في جنوب القوقاز ودعم مشاريع النقل والمواصلات الجديدة
ـ تعميق الشراكة الجيوسياسية مع روسيا في جنوب القوقاز من خلال الانخراط مع موسكو في جهود رعاية عملية السلام بين أذربيجان وأرمينيا.