مناورات أرمينيا تقوض جهود السلام في جنوب القوقاز

محمود علوش @@mahmoudallouch
اسطنبول
نشر في 19.09.2023 19:03
آخر تحديث في 19.09.2023 19:12
أذربيجان تطلق عملية عسكرية في إقليم قره باغ DHA أذربيجان تطلق عملية عسكرية في إقليم قره باغ (DHA)

قبل ثلاث سنوات، أبرمت أرمينيا وأذربيجان اتفاقا لوقف إطلاق النار برعاية روسية وضع نهاية لحرب قره باغ الثانية التي استمرت بضعة أسابيع وخلق فرصة نادرة لإنهاء الصراع التاريخي بين البلدين وتحويل جنوب القوقاز إلى منطقة استقرار وتعاون إقليمي.

ينما كان من المفترض أن تمر الذكرى السنوية الثالثة للحرب هذا العام بهدوء، هاهي تجلب معها مخاطر اندلاع حرب جديدة. وإذا كان هناك من طرف يتحمل بصورة أساسية مسؤولية التوترات الجديدة بين البلدين فهو يريفان بسبب مواصلة دعمها لاستفزازات الانفصاليين في الإقليم والتنصّل من التزاماتها بالانخراط في حوار بناء مع باكو للتوصل إلى اتفاق سلام شامل وتفعيل مشاريع خطوط النقل في المنطقة. حقيقة أن اتفاق 2020 وضع خارطة طريق لإحلال السلام ترتكز على النوايا فقط تُفسر إلى حد بعيد أسباب الوصول إلى هذا الانسداد في عملية السلام وزيادة مخاطر اندلاع حرب جديدة، لكنّ الحقيقة الأخرى الأهمية هي أن أرمينيا لم تتخلى عن مساعيها لعكس التحولات الجيوسياسية الكبيرة التي أفرزتها حرب قره باغ الثانية وتعمل بشكل متزايد على استثمار الصراع الروسي الغربي والهاجس الإيراني من مشروع فتح ممر بري بين أذربيجان وإقليم ناخاتشفيان، لإعادة عقارب الساعة إلى الخلف.

مع أن رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشنيان أظهر في اتفاق 2020 شجاعة في الموافقة على الانخراط في عملية سلام مع أذربيجان والتخلي عن طموحات أرمينيا بالاحتفاظ بسيطرتها على إقليم قره باغ والانفتاح على تطبيع العلاقات مع تركيا، إلآّ أنه أصبح اليوم أقل استعداد لمواصلة الانخراط في هذا المسار لاعتبارات مرتبطة بالضغوط الداخلية عليه وبالتحولات على طرأت على العلاقات الأرمنية الروسية منذ حرب 2020. لم تكن تلك الشجاعة ذاتية بقدر ما كانت نتيجة للهزيمة في الحرب، لكنّها عكست كفاءة باشنيان في قراءة دقيقة للتحولات التي طرأت على صراع قره باغ منذ تلك الفترة. إن عودة يريفان اليوم إلى إدمان لعبتها السابقة لإفشال مساعي السلام في جنوب القوقاز، لا تُقوض فحسب فرص التوصل إلى اتفاق سلام شامل مع أذربيجان، بل تضع يريفان في موقف أضعف وتزيد المخاطر عليها في حال تفجر صراع عسكري جديد. كما تعمل على إفساد البيئة الجديدة الإيجابية في العلاقات الأرمنية التركية وحرمان يريفان من الاستفادة من مزايا الانخراط في تعاون إقليمي عبر مشاريع خطوط النقل الجديدة.

علاوة على ذلك، يذهب باشنيان بعيداً في الرقص على حافة الهاوية عبر التشكيك بدور روسيا في رعاية وقف إطلاق النار في قره باغ والاعتقاد بأن حرب الاستنزاف التي تخوضها موسكو في أوكرانيا علامة على فقدان قدرتها على تأكيد نفوذها على الفضاء السوفيتي السابق. لا يتناقض هذا التشكيك فحسب مع حقيقة أن الشراكة الجديدة التي يسعى باشنيان لنسجها مع الغرب لا يُمكنها أن تُشكل حماية أمنية لأرمينيا بدلاً من الحماية الروسية، بل يُخاطر بدفع موسكو إلى تبني نهج عدائي ضد يريفان. مع أن روسيا رفضت في حرب قره باغ الثانية الاستجابة لطلب باشانيان بتفعيل معاهدة الدفاع المشترك لوقف العمليات العسكرية الأذربيجانية في قره باغ، إلآّ أن رعايتها لوقف إطلاق النار ساعد يريفان في الحد من الخسائر التي مُنيت بها في الحرب. يبدو باشانيان واقعياً بعض الشيء في محاولة تقليص اعتماد بلاده على روسيا والبحث عن تنويع الشراكات، إلآّ أنه اختار الطريقة والتوقيت الخطأ لفعل ذلك. كان الامتعاض الروسي الواضح من المناورات العسكرية الأخيرة التي أجرتها أرمينيا والولايات المتحدة بمثابة تحذير واضح من الكرملين بأنه لن يتسامح مع محاولة باشنيان اللعب على التناقضات الروسية الغربية لتمكين الغرب من إيجاد موطئ قدم له في منطقة تعتبرها روسيا حديقة خلفية لها.

اقترح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً عقد قمة رباعية على مستوى القادة بين روسيا وتركيا وأذربيجان وأرمينيا لنزع فتيل التصعيد الحالي ودفع مسار السلام في جنوب القوقاز. مثل هذا المسار سيكون مُنتجاً بقدر أكبر في تحويل البيئة الحالية المتوترة إلى فرصة لحث باشنيان على التفكير مُجدداً في مزايا السلام والتخلي عن اعتقاده الخاطئ بأن تصعيد التوترات يُساعد أرمينيا في تحسين شروطها في أي عملية سلام شاملة. لقد أثبتت الرعاية الأوروبية لمفاوضات السلام بين أذربيجان وأرمينيا أنها غير كافية وحدها للوصول إلى سلام شامل بدون انخراط الأطراف الإقليمية الأساسية المؤثرة في رعاية هذا المسار وهي تركيا وروسيا وإيران. لكنّه، وقبل ذلك، سيتعين على أرمينيا الاعتراف بأحقية أذربيجان في تقرير مستقبل إقليم قره باغ كجزء من أراضيها بموجب القانون الدولي والتوقف عن تجاهل معايير الاعتراف المتبادل بالسلام الإقليمية وتقديم تفسيرات خاصة بها بشأن عملية ترسيم الحدود تناقض القانون الدولي.

أدت ثلاثة عقود من الاحتلال الأرميني لإقليم قره باغ إلى حرمان جنوب القوقاز من الاستفادة من مزايا السلام والاستقرار في مشاريع التنمية والتعاون الإقليمي. إن استمرار انسداد فرص السلام لن يؤدي سوى إلى إضعاف أرمينيا بشكل متزايد في المعادلة الجيوسياسية الجديدة التي أفرزتها حرب قره باغ الثانية.