مضت ثلاثة أشهر على الهزيمة الكبيرة التي مُنيت بها أحزاب المعارضة التركية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، لكنّ العاصفة التي أثارتها الهزيمة سُرعان ما تحولت إلى فوضى داخل جبهة المعارضة تُضعف قدرتها على تقديم جبهة متماسكة في الانتخابات المحلية المقررة بعد نحو ستة أشهر.
فمن جانب، عمق الصراع على قيادة حزب الشعب الجمهوري بين زعيمه كمال قلتشدار أوغلو ورئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو من الانقسام داخل أكبر أحزاب المعارضة. كما قلّصت زعيمة حزب "الجيد" ثاني أكبر الأحزاب المعارضة من فرص خوض المعارضة الانتخابات المقبلة في جبهة موحّدة على غرار انتخابات مايو بدعوتها جميع الأحزاب إلى دخول الانتخابات بشكل مستقل رغم أنها لم تُغلق الباب أمام إمكانية التعاون بين المعارضة في بعض البلديات الكبرى المهمة مثل إسطنبول وأنقرة. ومن جانب آخر، وضع الأداء المتواضع في انتخابات مايو حزب الشعوب الديمقراطية في موقف ضعيف من حيث الصورة التي سعى لرسمها لنفسه على أنه "صانع ملوك"، وأصبح التحالف معه ينطوي على مخاطر بقدر أكبر من المكاسب المتصورة.
رغم أن هذه الفوضى هي نتيجة حتمية لهزيمة مايو، إلآّ أن جانباً كبيراً منها صنعته أحزاب المعارضة بنفسها. تُظهر أزمة التغيير في حزب الشعب الجمهوري كيف أن قلتشدار أوغلو الذي قدّم نفسه في انتخابات مايو على أنه المنقذ لتركيا وديمقراطيتها، مستعد لمواصلة القتال حتى الرمق الأخير من أجل الحفاظ على منصبه والتهرب من دفع ثمن هزيمة مايو. ومع أنّه الشخصية المعارضة الأساسية الذي يتحمل هذه الهزيمة بحكم قيادته لتحالف المعارضة، إلآّ أن تسليط الضوء عليه لا يًُخفي المسؤوليات التي يتحملها قادة المعارضة الآخرين. ميرال أكشنار كانت أكثر جرأة من قادة المعارضة في الانتقاد الذاتي، لكنّها مع ذلك، لم تُترجم هذا النقد إلى خطوات حاسمة لتحمل جزء من مسؤولية الهزيمة أو على الأقل إحداث تغيير جذري في سياسة حزبها. رغم أنها لم تعد ترى في تكرار تجربة التحالف السباعي فكرة جذابة، إلآّ أن استراتيجيتها في إدارة المرحلة المقبلة لا تزال غامضة، كما أنها تعمل على توظيف مسألة وحدة المعارضة هذه المرّة كورقة ضغط على حزب الشعب الجمهوري لتحسين موقفها التفاوضي في مساومات الانتخابات المحلية.
علاوة على ذلك، فإن أحزاب المعارضة لم تستفد كما ينبغي من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها في انتخابات مايو على صعيد إدارة التحالف والبرنامج السياسي. كان من الواضح أن استراتيجية الوحدة من أجل الإطاحة بأردوغان غير كافية للمعارضة لتقديم أداء قادر على إحداث تغيير سياسي، لكنّها مع ذلك، لا تزال المُحفز الأساسي لجميع أحزاب المعارضة للتوحد. عندما تكون الوحدة هدفاً بحد ذاتها، فإنها قادرة على الإنتاج بقدر أكبر مما هو الحال عليه عندما تكون وسيلة للوصول إلى السلطة. لا تزال هذه الاستراتيجية تتجاهل حقيقة أن أحزاب المعارضة عاجزة عن الوصول إلى تقييم فعال للأثار السلبية للتحالف على قواعدها الانتخابية. مع أن أكرم إمام أوغلو يقود حالياً معركة التغيير في قيادة حزب الشعب الجمهوري، إلآّ أنّه وعد بتشكيل أوسع تحالف للمعارضة في الانتخابات المقبلة. بالطريقة التي وجد فيها قليجدار أوغلو صعوبة في تسويق التحالف مع حزب الشعوب الديمقراطية والأحزاب المحافظة الأخرى داخل القاعدة الشعبية لحزب الشعب الجمهوري، فإن التركيز على استراتيجية الوحدة كوسيلة للفوز في الانتخابات المقبلة من غير المرجح أن تؤدي إلى نتيجة مختلفة عن النتيجة التي حصدتها المعارضة في انتخابات مايو.
بالإضافة إلى ذلك، لا تزال أحزاب المعارضة عاجزة عن طرح رؤية سياسية واضحة عملية غير تلك القائمة على الحاجة إلى التغيير من أجل التغيير. لا يزال قلتشدار أوغلو يُسوغ محاولته للتمسك بمنصبه في زعامة حزب الشعب الجمهوري في إطار الحاجة إلى الحفاظ على الاستقرار في جبهة المعارضة لحرمان حزب العدالة والتنمية الحاكم من استعادة البلديات الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة. لقد أدارت أحزاب المعارضة هذه البلديات الكبرى منذ سنوات، لكنّها تسعى للحفاظ عليها من خلال التحذير من مخاطر الخسارة بدلاً من التركيز على التغيير الإيجابي المفترض الذي أحدثته في هذه البلديات وهو أمر لا يُمكن ملاحظته بأي حال. مع أن الانتخابات المحلية تتطلب برنامجاً سياسياً متواضعاً من حيث التوقعات السياسية الكبيرة، إلآّ أن حرص أحزاب المعارضة على وضعها في إطار مشروع التغيير السياسي سيعمل على زيادة حالة الإحباط في القواعد الشعبية للمعارضة عموماً. نجح هذا التأطير جزئياً في الانتخابات المحلية السابقة لكنّه لم يؤدي بأي حال إلى التغيير الذي تطمح له المعارضة.
لا يزال على الانتخابات المحلية ستة أشهر وهي فترة طويلة في السياسة الداخلية التركية ذات الديناميكيات المتحولة، وتشكل فرصة للأحزاب السياسية بما فيها المعارضة للتوصل إلى تقييم دقيق وموضوعي لنتائج انتخابات مايو والاستفادة منه لوضع استراتيجية مناسبة لخوض الانتخابات المحلية. لكنّ الفوضى التي تعصف بالمعارضة تجعل من الصعب عليها الوصول إلى مثل هذا التقييم واكتشاف مكامن الضعف والقوة. على مدى عقدين من حكم حزب "العدالة والتنمية" كانت أحد نقاط قوة الرئيس رجب طيب أردوغان تكمن في ضعف معارضيه. ومن المرجح أن يكون لهذه الميزة دور مؤثر في تحديد نتائج الانتخابات البلدية المقبلة.