بادئ ذي بدء، إن أهمية الدور التركي الكبير في سوريا تجعل من أي تحوّل في السياسات مؤثراً بشكل حاسم على مسار الصراع. لدى تركيا وجود عسكري في شمال سوريا وتُشرف على إدارة مساحات واسعة من المناطق التي لا تزال خاضعة لسيطرة المعارضة، كما تُعد دولة ضامنة للمعارضة السورية. علاوة على ذلك، تخوض أنقرة منذ سنوات صراعاً ضد التنظيمات الإرهابية على رأسها منظمة "واي بي جي" الذراع السوري لتنظيم "بي كا كا" الإرهابي.
مع ذلك، تبدو التقييمات التي ترى أن تركيا قررت الانتقال إلى ضفة أخرى في الصراع مبالغ فيها إلى حد بعيد وتتجاهل المُحددات الرئيسية الثابتة في السياسة التركية في سوريا. مع أن انفتاح أنقرة على الحوار مع دمشق بدا وكأنه تحول جذري في سياستها السورية، لكنه في الواقع لم يكن مفاجئاً كما أنّه نتيجة للتحول الذي بدأته تركيا في سوريا منذ عام 2016.
بهذا المعنى، لا يجب أن يُنظر إلى السياسة التركية الراهنة على أنها مختلفة كلياً عن السياسات السابقة أو أنها تخلت عن ثوابتها الأساسية في سوريا. رغم دخول تركيا في منصة أستانة عام 2017 ورعايتها إلى جانب روسيا وإيران لاتفاقات لتأسيس مناطق خفض التصعيد ورعاية اتفاقات لوقف إطلاق النار، إلآّ أنها لم تتنازل عن علاقاتها بالمعارضة السورية ودعمها للسوريين في المناطق التي تُشرف على إدارتها، كما لا تزال متمسكة بضرورة تحقيق تسوية سياسية شاملة للصراع. لقد أظهرت العمليات العسكرية التي شنتها تركيا في سوريا منذ عام 2016 أنها لم تُساوم على مصالحها الأمنية في سوريا وعلى الثوابت التي حدّدتها منذ اندلاع الحرب فيما يتعلق بالتسوية السياسية. ما يختلف اليوم في السياسة التركية أنها تسعى لخلق آفاق جديدة في مكافحتها للإرهاب ودعم مسار التسوية السياسية من خلال المفاوضات مع النظام السوري كوسيلة لتحقيق هذه الأهداف من دون التخلي عن الثوابت. لا شك أن الموازنة بين الأمرين في صراع مُعقد من حيث طبيعته والتدخلات الخارجية وتأثيراتها على المصالح التركية تستلزم صياغة سياسة جديدة قادرة على مواكبة هذه المتحولات بشكل أفضل وهو ما تفعله أنقرة.
مع أن تركيا كانت من ضمن عدّة دول تدخلت عسكرياً في سوريا، لكنها قدّمت نموذجاً استثنائياً في إدارة دورها العسكري والإنساني بشكل جعلها طرفاً أساسياً في تحقيق السلام والاستقرار في هذا البلد. أضحت المناطق التي تُديرها تركيا في شمال غرب سوريا وفي أجزاء من شرق سوريا قابلة للعيش وعاد إليها الكثير من السوريين الذين هجّروا منها خلال سنوات الحرب. كما أعادت تأهيل هذه المناطق أمنياً واقتصادياً ما ساعد السوريين القاطنين فيها على تأمين حد مقبول من الأمن ومتطلبات العيش الكريم. وفي الوقت الذي عملت فيه دول غربية كالولايات المتحدة على دعم تنظيم يسعى لتفكيك وحدة سوريا، كانت تركيا ولا تزال فاعلاً أساسياً في مقاومة مساعي تفكيك سوريا. وفق هذا المنظور، لا يزال دور تركيا في سوريا حيوياً ليس فقط على صعيد تحقيق مصالحها الأمنية وتأمين العودة الآمنة للاجئين، بل أيضاً على صعيد ضمان وحدة الأراضي السورية ودفع مسار السلام. إن جانباً أساسياً من السياسة التركية في سوريا يرتكز على التفاهمات التي أقامتها مع روسيا والتي ساعدت إلى حد كبير في تهدئة حدة الحرب.
الآن، ومع مواصلة المفاوضات التركية السورية، أصبحت السياسة التركية في سوريا أكثر وضوحاً وترتكز على تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية. معالجة الهواجس الأمنية من خلال التوصل إلى تفاهمات أمنية مع النظام السوري وحلفائه للعمل المشترك على مكافحة التنظيمات الإرهابية التي تُهدد وحدة سوريا كوحدات حماية الشعب الكردية، وتهيئة الأرضية المناسبة لعودة اللاجئين السوريين إلى مناطقهم، فضلاً عن دفع عملية التسوية السياسية الشاملة للصراع. لا تزال أنقرة تتمسك بالتسوية السياسية على أساس قرار مجلس الأمن الدولي 2254 بينما لم يعد العالم يُركز كثيراً على هذا المسار. في ضوء ذلك، فإن نجاح الحوار التركي السوري سيبقى مرهوناً بتحقيق الأهداف الثلاثة للاستراتيجية التركية في سوريا. قبل تحقيق ذلك، من المرجح أن تتمسك تركيا ببقائها العسكري في سوريا لضمان مصالحها الأمنية أولاً، ولتأكيد التزامها بحماية السوريين في المناطق التي تُشرف عليها ثانياً، وللضغط على النظام وحلفائه من أجل دفع عملية التسوية السياسية.
لقد مضى على الحرب السورية ما يقرب من اثني عشر عاماً، وتركيا من أكثر الدول التي تأثّرت بارتداداتها على كافة المستويات، وترى أن الوقت حان للتكيّف مع التحولات التي طرأت على مسار الصراع من خلال وضع مقاربات جديدة توازن بين مصالحها الأمنية وبين توظيف الشراكة الوثيقة التي أقامتها مع موسكو بعد منتصف العقد الماضي من أجل إحداث خرق في جدار العملية السياسية. سيسعى وزير الخارجية التركي الجديد هاكان فيدان، الذي لعب دوراً بارزاً السنوات الماضية في تشكيل السياسية الأمنية التركية في سوريا، إلى الموائمة بين متطلبات الأمن والدبلوماسية بشكل فعال من أجل تحقيق الاستراتيجية الجديدة. ستبقى أنقرة تنظر إلى تحقيق السلام الشامل في سوريا على أنه الوسيلة الوحيدة التي تضمن معالجة هواجسها الأمنية. كما لا تتعاطى مع الحاجة إلى إعادة تطبيع العلاقات التركية السورية على أنها هدف بقدر ما هي وسيلة جديدة لإجبار الفاعلين المؤثرين في المعادلة السورية على الإقرار بمصالحها ودفعهم إلى التفكير في مزايا العمل المشترك من أجل دفع عملية السلام في سوريا.