كان قرار تركيا مؤخرا إرسال كتيبة عسكرية إلى كوسوفو ضمن مهمة لحلف الناتو لنزع فتيل التوترات العرقية المتجددة في شمال البلاد أحدث علامة على الموثوقية المتزايدة التي تحظى بها كقوة استقرار في العالم.
إن جانباً أساسياً من هذه الموثوقية يرجع إلى ميزة نادرة تتمتع بها أنقرة في التعامل مع صراعات إقليمية ودولية، وهي قدرتها على التحدث مع الجميع وتقديم نفسها كطرف أولويته إرساء السلام بين المتنازعين.
كانت تركيا إحدى الدول التي قدّمت دعماً قويا لكوسوفو بعد نيل استقلالها، إلآّ أنها أقامت أيضاً علاقات جيدة مع صربيا. يُقدم موقف تركيا من التوترات بين صربيا وكوسوفو صورة أوسع عن سياسة خارجية تركية نشطة وفعالة في الكثير من النزاعات الدولية. في الحرب الروسية الأوكرانية المستمرة منذ نحو عام ونصف، استطاع الرئيس رجب طيب أردوغان من خلال نهج التوازن الانخراط في جهود الوساطة بين موسكو وكييف لتهدئة حدّة الحرب ومحاولة فتح أفق لتحقيق السلام. رفضت تركيا الانخراط في العقوبات الغربية المفروضة على موسكو، لكنّها أبدت دعما قوياً لوحدة أوكرانيا وعارضت الحرب بشدة.
وعلى الرغم من حفاظها على الشراكة مع روسيا، استطاعت أنقرة الموازنة بين متطلبات هذه الشراكة وبين هويتها كعضو في حلف شمال الأطلسي. في الوقت الذي تعاملت فيه بواقعية مع ظروف الصراع الروسي الغربي وأسبابه المتمثلة في تمدد حلف الناتو تجاه روسيا، فإنها ظلت أيضا متمسكة بسياسة الباب المفتوح للانضمام إلى حلف الناتو. مع ذلك، لم تتنازل تركيا عن مطالبها من الدول الجديدة التي رغبت بعد الحرب الروسية الأوكرانية بالانضمام إلى الناتو كفنلندا والسويد. لأن فنلندا نفذت الالتزامات التي قدمتها بخصوص مكافحة الإرهاب، فإن أنقرة أزالت اعترضها على انضمام هلسنكي إلى الناتو. لا تزال قضية انضمام السويد للحلف معقدة بفعل الخلافات التي تبدو أكثر تعقيداً بين أنقرة وستوكهولم مقارنة مع فنلندا. ينتظر الغرب الآن أن تُزيل تركيا اعتراضها على دخول السويد إلى الناتو قبيل قمة الحلف المقبلة في ليتوانيا في يوليو تموز المقبل، لكن الدول الغربية بدأت تتعامل بشكل أكثر واقعية مع هواجس تركيا المشروعة.
في صراعات أخرى محيطة كجنوب القوقاز وسوريا وليبيا، برزت الموثوقية التركية في الدعم اللامحدود الذي قدمته أنقرة لحلفائها في هذه المناطق. وكان هذا الدعم يرتكز على مبدأ احترام القانون الدولي والعمل على معالجة صراعات تاريخية عجز العالم في حلها. دعمت تركيا أذربيجان في حرب قره باغ الثانية لاستعادة أراضيها التي احتلها أرمينيا لعقود وفشلت مجموعة مينسك في إنهاء هذا الصراع. بعد تحرير قره باغ، سارعت أنقرة إلى الانفتاح على إعادة تطبيع العلاقات مع أرمينيا من أجل تحويل جنوب القوقاز إلى منطقة استقرار.
في سوريا، صمم الوجود العسكري التركي لمواجهة التهديدات الأمنية التي تُشكلها تنظيمات إرهابية كمنظمة واي بي جي الذراع السوري لمنظمة بي كا كا الإرهابية. مع ذلك، ظلت تركيا متمسكة بالحفاظ على وحدة الأراضي السورية وعملت إلى جانب روسيا وإيران من أجل دفع عملية السلام في هذا البلد. كانت تركيا الدولة الوحيدة، من بين الدول المنخرطة عسكرياً في الصراع السوري، التي عملت على إعادة تأهيل المناطق التي تُديرها في شمال سوريا لإعادة اللاجئين إليها ومنع حدوث موجات لجوء جديدة. بقدر ما أن أنقرة حرصت على تعميق شراكتها مع روسيا وإيران ضمن ما يُعرف بمنصة أستانة، إلآّ أنها لم تتخلى عن دعم المعارضة السورية وعن الحاجة إلى تحقيق تسوية سياسية شاملة لهذا الصراع.
في ليبيا أيضاً، كانت تركيا من بين الدول القليلة التي ساندت الحكومة المعترف بها دولياً في مواجهة هجوم الجنرال خلفية حفتر على العاصمة طرابلس عام 2019. مع ذلك، انخرطت أنقرة بفعالية في الجهود الدولية لإنهاء الصراع الليبي ودعمت خارطة الطريق التي رعتها الأمم المتحدة لإجراء انتخابات في هذا البلد. لا تزال هذه العملية متعثرة، لكنّ النهج الجديد الذي بدأته تركيا في سياساتها الليبية خلال السنوات الأخيرة من خلال الانفتاح على إقامة علاقات مع الشرق الليبي و إبداء استعدادها للتعاون مع مصر لإحلال السلام في ليبيا خلقت آفاقاً جديدة لإرساء الاستقرار في هذا البلد. يُقدم الانخراط التركي في الملفين السوري والليبي إلى جانب موقف تركيا من الأزمة الخليجية عام 2017، نموذجاً عن الالتزام العميق لتركيا تجاه حلفائها في الخارج والكيفية التي تمكنت من خلالها في الموازنة بين الدعم وبين متطلبات الدبلوماسية التي تفرض التعاون مع المنافسين الآخرين لتحقيق الاستقرار الإقليمي. لقد مكن ذلك تركيا من بناء سمعة طيبة بين حلفائها كبلد يُبدي التزاماً عميقاً في مواصلة دعم حلفائه بغض النظر عن التكاليف المترتبة عن هذا الدعم.
أضحت تركيا اليوم في الشرق الأوسط قوة استقرار إقليمي لا يُمكن تجاهلها في عملية إعادة تشكيل النظام الإقليمي الجديد. بفعل موثوقيتها العالمية والمزج الدقيق بين القوتين الصلبة والناعمة، قررت معظم القوى الإقليمية التي توترت علاقاتها مع تركيا خلال العقد الماضي إعادة إصلاح العلاقات معها والتفكير في مزايا التعاون مع قوة إقليمية صاعدة ويحظى دورها باهتمام عالمي متزايد. يبدو الرئيس رجب طيب أردوغان قارئاً ماهراً للتحولات الإقليمية والعالمية لأنه أدرك منذ فترة طويلة هذا التنافس الجيوسياسي الجديد بين القوى العظمى على إعادة تشكيل النظام العالمي وكان سباقاً في التعامل المبكر مع هذا التنافس عبر تعزيز وضع تركيا كقوة استقرار بين الشرق والغرب وحث الشرق الأوسط على العمل من أجل معالجة قضاياه وصراعاته بشكل ذاتي وعبر التعاون بين القوى الفاعلة فيه.