تحققت إحدى أهم التحولات في النظام السياسي التركي بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/ تموز 2016، ونجحت تركيا في إعادة هيكلة نظامها السياسي الداخلي وإعادة تحديد مسؤوليات العديد من مؤسسات الدولة.
ومن بين أمور أخرى، تضافرت جهود الفاعلين المتنوعين في السياسة الخارجية حيث بدأت العديد من المؤسسات الحكومية مثل وكالة التعاون والتنسيق التركية "تيكا" ورئاسة الأتراك في المغترب والشتات، في لعب أدوارٍ فعالة في مجال السياسة الخارجية.
ومع ذلك، تم إجراء التغيير الأكثر أهمية في مجال الأمن، إذ شهد الطرفان الأمنيان اللذان يضطلعان بالمهات الداخلية، وهما القوات المسلحة التركية وجهاز المخابرات الوطنية، تحولاً واسع النطاق.
وبعد فصل الأمن الداخلي عن الأمن الخارجي، تم وضع مؤسستين أمنيتين تابعتين لوزارة الدفاع، هما القيادة العامة لقوات الدرك وقيادة خفر السواحل، تحت إشراف وزارة الداخلية، المسؤولة الحصرية عن الأمن الداخلي.
وبالمثل، بعد أن أصبح هاكان فيدان رئيساً لجهاز الاستخبارات الوطنية، أعاد هيكلة المؤسسة وفصل الاستخبارات الداخلية عن الاستخبارات الخارجية. وهكذا، أصبح الجيش التركي وجهاز الاستخبارات فاعلين حقيقيين في السياسة الخارجية، وبدأ في حماية الأمن القومي للبلاد من التهديدات الخارجية، وبالتالي نفّذا عمليات عسكرية فعالة في دول مختلفة ضد المنظمات المناهضة لتركيا.
وبعد انتخاب الرئيس رجب طيب أردوغان للمرة الثانية في ظل النظام الرئاسي، عُين هاكان فيدان، وزيراً جديداً للخارجية. وهكذا، أصبح فيدان كبير الدبلوماسيين في الحكومة الأولى لرؤية "قرن تركيا"، وهو أول وزير خارجية قادم من جهاز الاستخبارات الوطنية ومن مؤسسة أمنية، ونظراً لأنه يمثل أحد أبرز التعيينات في حكومة الرئيس أردوغان الجديدة، فإن التوقعات منه في منصبه الجديد عالية جداً.
وفيدان هو أحد البيروقراطيين والمساعدين الرئيسيين للرئيس أردوغان طوال فترة حكمه منذ عام 2003، عندما أصبح أردوغان رئيساً لوزراء البلاد، ويتمتع فيدان بمهنية رائعة تتراوح من ضابط صف إلى أكاديمي ومن المناصب البيروقراطية إلى رئيس الاستخبارات الوطنية، وأخيراً إلى وزير الخارجية.
شغل فيدان بدايةً منصب رئيس الوكالة التركية للتعاون والتنسيق "تيكا"، وهي المؤسسة الحكومية الرئيسية التي تقدم المساعدة الإنسانية والتنموية للدول والمجتمعات المحتاجة في جميع أنحاء العالم، وذلك عام 2003، ثم تم تعيينه نائباً لوكيل وزارة الخارجية عام 2007 ومسؤولاً عن السياسة الخارجية والأمن الدولي.
وأثناء توليه هذا المنصب، شغل أيضاً منصب الممثل الخاص لرئاسة الوزراء، وقام بأداء مهمات تتعلق بالإرشاد الخاص لرئيس الوزراء آنذاك أردوغان، والوفد التركي و"محافظاً" في الوكالة الدولية للطاقة الذرية في قمة المنظمة، وبصفته الممثل الخاص لرئيس الوزراء، اكتسب خبرة في مختلف الأزمات الدولية والمناطق المضطربة، كما تخصص في قضايا مكافحة الإرهاب أيضاً.
وفي عام 2010، عُين نائباً لرئيس جهاز الاستخبارات الوطنية للضروريات الإجرائية، ثم رئيساً للاستخبارات في سن 42 عاماً، حيث وُصف بأنه أصغر شخص يعمل كرئيس في تاريخ المؤسسة، وشغل هذا المنصب لمدة 13 عاماً.
وإلى جانب حياته المهنية البيروقراطية، فإن مسيرته الأكاديمية مشرقة جدًا، فقد تخرج فيدان من مدرسة القوات البرية القتالية ومدرسة القوات البرية للغات، وخلال فترة عمله في الجيش الترطي، حصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية والعلوم الإدارية من جامعة ماريلاند في الولايات المتحدة.
بعد ذلك، حصل فيدان على درجة الماجستير من جامعة "بيلكنت" من خلال أطروحته بعنوان "دور الذكاء في السياسة الخارجية" ودكتوراه في أطروحته بعنوان "الدبلوماسية في عصر المعلومات: استخدام تكنولوجيا المعلومات في التحقق من المعاهدات".
وبعد أن أكمل تعليمه أجرى دراسات أكاديمية حول الأمن الدولي والتنمية الدولية والسياسة الخارجية التركية، وقام بتدريس دورات في مجال العلاقات الدولية في جامعتي "هاجي تيبه" و"بيلكنت"، وتابع دراسته الأكاديمية في الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا وفي الأمم المتحدة في جنيف.
وكان التركيز الرئيسي لدراساته الأكاديمية هو دور الذكاء في السياسة الخارجية، وشدد على أن تركيا يجب أن تتخلص من الاعتماد على استخبارات الدول الأخرى وتقوية ذكائها من أجل سياسة خارجية أقوى وأكثر فاعلية.
وكان يشارك طوال إشغاله لكل تلك المناصب البيروقراطية والأكاديمية الحاسمة، بشكل مباشر وغير مباشر في الشؤون الخارجية، وعلى وجه الخصوص بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، وبفضل زيادة قدرته الاستخبارية البشرية والتكنولوجية، زاد جهاز الاستخبارات الوطنية بقيادة فيدان من أنشطته في مكافحة الإرهاب في سوريا والعراق، وكذلك داخل تركيا، وزاد في نهاية المطاف فعاليته على الساحة الدولية.
وشارك فيدان في جميع زيارات الرئيس أردوغان الخارجية تقريباً، وعمل عن كثب مع وزيرين آخرين مسؤولين عن قضايا السياسة الخارجية إضافةً لوزير الخارجية السابق مولود تشاوش أوغلو ووزير الدفاع السابق خلوصي أقار، لهذا كله يعدُّ فيدان بالفعل جزءاً من السياسة الخارجية وآليات الأمن القومي.
ولعب فيدان وجهاز الاستخبارات دوراً مهماً في تطبيع العلاقات التركية مع دول المنطقة في الشرق الأوسط، وتم تنفيذ المرحلة الأولى من الحوار ونقلها إلى مرحلة معينة من قبل جهاز الاستخبارات بقيادة فيدان، ثم تركت العملية لوزارة الخارجية، وخير مثال على ذلك عملية التطبيع مع النظام السوري.
وبالنظر إلى كل هذه التجارب والمزايا الشخصية، من الواضح أن هاكان فيدان هو بالفعل دبلوماسي ماهر وذو خبرة، ومن المؤكد أنه من خلال منصبه الجديد كوزيرٍ دبلوماسي للبلاد، سيتعامل علناً مع القضايا التي اعتاد التعامل معها خلف الكواليس، وبصفته كبير دبلوماسيي تركيا، يمكن للمرء أن يتوقع بسهولة أنه سينجح في تمثيل جميع أنواع القوة الثلاثة في العلاقات الدولية، وهي القوى الصلبة والناعمة والذكية.
فكونه شغل منصب رئيس سابق لوكالة التنسيق والتعاون "تيكا"، يمكن لفيدان تعبئة القوة الناعمة للبلاد، وكأكاديمي حاصل على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية، فهو قادر على حشد القوة الذكية لتركيا.
وأخيراً، بصفته جندياً سابقاً ورئيساً للمخابرات التركية لفترة طويلة، فهو يعرف كيف يحشد القوة الصلبة التركية، وليس من المستغرب أنه سيعكس خصائصه الشخصية وخبراته في تنفيذ نمطٍ جديد من السياسة الخارجية.
ويسود مستوى عالٍ من التوقعات بأن فيدان سيعزز بالتأكيد التوجه الحالي للسياسة الخارجية التركية ويضفي الطابع المؤسسي على الوضع الدولي الجديد لتركيا، وفي الواقع، قدم فيدان بالفعل بعض الأدلة حول فهمه للسياسة الخارجية، وشدد في خطابه العلني الأول كوزير للخارجية، على أنه "سيتبع سياسة خارجية وطنية ومستقلة".
وبعبارة أخرى، أكد بوضوح أنه سيعزز توجه السياسة الخارجية المتمحور حول أنقرة، وبشكل عام، يمثل فيدان نوعاً جديداً من الدبلوماسيين يناسب الدور الجديد لتركيا في السياسة الدولية.