أنجزت تركيا النصف الأول من أهم انتخابات تُجريها في تاريخها السياسي الحديث وتستعد لإتمام النصف الثاني في الثامن عشر من مايو أيار المقبل. كان من المفترض أن يحظى العرس الديمقراطي التركي بإعجاب وثناء في الغرب، الذي يرفع من لواء دعم الديمقراطيات العالمية شعاراً له في معركته لإعادة تأكيد هيمنته العالمية. لكنّه لم يكن كذلك. ليس لأنّ الديمقراطية التركية أقل قيمة من نظيرتها الغربية، بل لأن الرئيس رجب طيب أردوغان قطع الشوط الأهم في طريق فوزه بولاية رئاسية ثالثة. لأن الكثير من وسائل الإعلام الغربية، وضعت رهانات عالية على هذه الانتخابات على أمل أن تؤدي إلى خسارة أردوغان وفوز كاسح للمعارضة في الرئاسة والبرلمان، فإنه من المفهوم إحباطها الشديد. بمعزل عن الأسباب العميقة التي تجعل الغرب عموماً يُفضل خروج أردوغان من السلطة، وهي بمعظمها رد فعل على النزعة الاستقلالية التي صنعها أردوغان لتركيا في سياستها الخارجية، إلآّ أنني أحاول جاهداً إيجاد تفسير منطقي لمحاولة التقليل الغربي من قيمة الديمقراطية التركية باعتبارها حقيقة فقط في الحالة التي يخسر فيها أردوغان.
قبل ساعات فقط من انتخابات 14 مايو، كانت كبريات الصحف الغربية قد نشرت بالفعل مئات التقارير والمقالات عن الديمقراطية التركية "التي أضعفها أردوغان"، لا بل إن بعضها لم تتردد في وصف زعيم المعارضة كمال قليجدار أوغلو بُمجدد الديمقراطية. لا نعلم ما إذا كانت هذه الصحف تجهل أو تتعمد تجاهل الحديث عن الكيفية التي فرضها بها قليجدار أوغلو ترشحه للرئاسة على شركائه في الطاولة السداسية والكيفية التي أقصى بها رئيسي بلديتي إسطنبول وأنقرة عن حقهما الديمقراطي بالترشح، أو الطريقة القذرة التي أُجبر فيها زعيم حزب "البلد" مُحرم إينجه على الانسحاب من السباق الرئاسي لتجيير أصواته لقليجدار أوغلو، أو الصفقة الغامضة التي أبرمها قليجدار أوغلو مع حزب "الشعوب الديمقراطي" الكردي وحصل بموجبها على دعم قادة منظّمة "بي كا كا" الإرهابية التي هي بالمناسبة مُصنّفة أيضاً على لوائح الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للمنظمات الإرهابية. يبدو أن كل هذه الأمور لا تستحق الذكر عندما يتعلّق الأمر بأردوغان.
يجذب الانتباه في موجة الإحباط الغربي من نتائج الانتخابات التركية تعليق للرئيس الأمريكي جو بايدن بعبارة "ليفوز من يفوز وهناك الكثير من المشاكل في المنطقة". قد يبدو تعليقاً مؤمناً بالديمقراطية التركية، لكنّه بالتأكيد لا يعكس ذلك. لماذا لم يفطن بايدن لهذه العبارة عندما دعا صراحة قبل أن يُصبح رئيساً أحزاب المعارضة التركية إلى الوحدة من أجل الإطاحة بأردوغان. لا يُمكن لهذه العبارة أن تُخفي حجم الإحباط الهائل في الغرب من الديمقراطية التركية لمجرد أنها أظهرت أن أردوغان لا يزال بالنسبة لأكثرية الأتراك زعيماً قوياً قادراً على إدارة البلاد والتعامل مع تحدياتها الداخلية والخارجية، والتي جزء كبير منها من تدبير الغرب نفسه لإضعاف حكم أردوغان. هل هو مُجرد سوء تقدير أن تُفضل الولايات المتحدة دعم منظمة "واي بي جي" الذراع السوري لمنظمة "بي كا كا" الإرهابية على شراكة استراتيجية مهمة مع تركيا؟ أو أن تحتضن زعيم منظمة "غولن" المتورطة في محاولة انقلاب عسكري على رئيس جاء إلى السلطة عبر الديمقراطية؟ أو أن تُحول الجزر اليونانية القريبة من تركيا إلى قواعد عسكرية أمريكية؟ بالتأكيد لا.
العلاقات التركية الغربية لا تزال حيوية ومهمة للطرفين ويجب أن تبقى كذلك. لقد أفسدت السياسات العدائية الغربية تجاه تركيا خصوصاً بعد النصف الثاني من العقد الماضي من روح وقيمة هذه العلاقات. مع ذلك، لا تزال أنقرة تنظر إلى نفسها على أنها جزء من الغرب. كما أن موازنتها الجيوسياسية بين الشرق والغرب لم تأتي على حساب هويتها الأطلسية. ينتقد الغربيون باستمرار العلاقة الودية بين تركيا وروسيا خصوصاً بعد الحرب الروسية الأوكرانية، لكنّهم يتجاهلون حقيقة أن تركيا، ورغم موقفها المحايد في الحرب، لم تتخلى عن دعمها القوي لوحدة الأراضي الأوكرانية ورفضت الحرب صراحة وسعت لخلق أمل للدبلوماسية لإنهاء هذه الحرب. في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص، بدا أن القادة الغربيين ينظرون إلى هزيمة أردوغان في انتخابات 2023 على أنها الأمل الوحيد لإعادة تركيا كشريك صغير وظيفته خدمة السياسات الغربية. لقد أنهى أردوغان هذا المفهوم الغربي للشراكة ووضع مفهوماً آخر يقوم على أن تركيا الجديدة قوة قائمة بحد ذاتها وتسعى للتكيف مع العصر الجديد من المنافسة بين القوى الكبرى.
مع اقتراب جولة الإعادة الرئاسية، والتي تبدو فيها فرص أردوغان بالفوز بولاية رئاسية جديدة أكبر بكثير من الرهان على خسارته، سيتعين على الدول الغربية بدءاً من الثامن والعشرين من مايو الجاري الاستعداد لخمس سنوات إضافية من العمل مع تركيا بقيادة أردوغان بدلاً من مواصلة الرهان على انتظار وهم خروجه من السلطة بهزيمة انتخابية. مما لا شك فيه أن إعادة ترميم العلاقات التركية الغربية سيواجه صعوبات كبيرة وقد لا يتحقق بالفعل في المستقبل المنظور، لكنّه لن يكون من مصلحة الغرب تجاهل العمل المنتج والفعل مع قائد قوي كأردوغان. لقد رسمت تركيا لنفسها مساراً جديداً في سياستها الخارجية وستمضي به بمعزل عن نظرة الغرب لها، لكنّ كل يوم سيمر اعتبارا من الثامن والعشرين من مايو دون تغيير في السياسات الغربية تجاه تركيا لن يعني سوى المزيد من إفساد الشراكة الاستراتيجية التركية الغربية. إن مواصلة التشكيك الغربي بروح وقوة الديمقراطية التركية يجعل أكثرية الأتراك أكثر اصطفافاً وراء أردوغان لأنّهم ببساطة ينظرون إليه على أنه يبني تركيا الجديدة التي تستطيع مواصلة النهوض بنفسها وحجز مكان لها بين الكبار في العالم الجديد الذي يتشكل.