بعد اجتياح روسيا لأوكرانيا أصبح الحديث عن النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب حقيقة يجب التعامل معها. وكثرت في الفترة الأخيرة التحليلات حول سبب بقاء الرئيس رجب طيب أردوغان عالقاً بين التحالف الغربي وروسيا. في الواقع، ما يجب الحديث عنه هنا لا يتعلق بأردوغان لأنه كان صادقاً وواضحاً منذ البداية. فتركيا أعلنت أنها تدعم انضمام أوكرانيا إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، وعارضت جهاراً ضم شبه جزيرة القرم. لكن أنقرة تريد أن تكون عضواً في الاتحاد الأوروبي أيضاً، والاعتراف بها كدولة متساوية، وليس كـ "دولة تابعة" كما كانت في السابق.
وقد واجهت تركيا روسيا على جبهات متعددة بمفردها، وقامت باحتواء روسيا في سوريا وهزيمة الجنرال الانقلابي خليفة حفتر في ليبيا وأخيراً تحرير إقليم قره باغ رغم مخالفة العديد من عمالقة الناتو مثل الولايات المتحدة أو فرنسا.
كما كانت تركيا الدولة الوحيدة العضو في الناتو التي أسقطت طائرة حربية روسية منذ الحرب الكورية. وهنا أشير إلى تدمير طائرة مقاتلة روسية من طراز سوخوي بالقرب من الحدود السورية التركية في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 بواسطة طائرة مقاتلة تركية من طراز إف-16. وفي ذلك الوقت، قرر حلفاء الناتو التصرف ضد مصالح تركيا. ولا يزال الأتراك يتذكرون دول الناتو التي ترددت في تذكير روسيا بالمادة 5 من ميثاق الناتو، والتي تدعو جميع الأعضاء للدفاع عن حليف يتعرض للهجوم.
علاوة على ذلك، وقبل 3 أشهر فقط من حادثة الطائرة الروسية، وبالرغم من أن تركيا طلبت بشكل واضح ومحدد، سحبت الولايات المتحدة وألمانيا أنظمة صواريخ باتريوت المضادة للصواريخ البالستية من تركيا. وهكذا أصرت أنقرة على شراء صواريخ باتريوت بمفردها. لكن الولايات المتحدة بعد محادثات ومساومات مكثفة، رفضت هذا المطلب أيضاً.
ودفع رفض الولايات المتحدة تركيا إلى اللجوء إلى روسيا للحصول على أنظمة صواريخ إس -400. فردت واشنطن على ذلك بإخراج تركيا من برنامج تطوير مقاتلات إف-35. وكان الجزء المحبط من هذا القرار هو مبلغ 1.4 مليار دولار الذي ساهمت به تركيا بالفعل في البرنامج. إلى جانب ذلك، طلبت تركيا شراء طائرات مقاتلة من طراز إف-16 كتعويض عن برنامج إف-35، لكن واشنطن ما زالت تتباطأ. وتثبت هذه الأحداث وجود حظر غير رسمي من قبل الولايات المتحدة على أي مبيعات أسلحة كبيرة لتركيا منذ ما يقرب من عقد من الزمان.
وبالنظر إلى كل هذه الأمثلة يمكن القول بثقة إن طموحات سياسة تركيا الخارجية، تعرضت لقراءة مشوهة من قبل واشنطن لفترة طويلة. ونظراً لأننا نشهد عدم فعالية الناتو ضد أكبر اجتياح دولة لدولة أخرى في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، أي الاجتياح الروسي لأوكرانيا، فربما حان الوقت لإعادة النظر في كيفية مساهمة تركيا في مهمة الناتو بشكل عام.
ويسهل دائماً الاستماع لجماعات الضغط في واشنطن، لكن لا ينبغي لأحد وضع استراتيجية كبرى تستبعد العضو الوحيد في الناتو الذي يمتلك أطول ساحل على البحر الأسود، خاصة في الأوقات التي تسعى فيها روسيا إلى مزيد من السيطرة. وإذا ما أراد الناتو إقامة ثقل موازن ضد روسيا، فلن يستطيع بعد الآن إبعاد حليفه القديم الذي صادف أن لديه ثاني أكبر جيش في الحلف. واليوم تبرز تركيا كقوة مستقلة في الجغرافيا السياسية الإقليمية. وتدرك سياسة الولايات المتحدة جيداً هذه الحقيقة في جوهرها، حيث يلجأ الغرب إلى تركيا في كل لحظة حرجة كما حصل عندما كانوا يستعدون للانسحاب من أفغانستان، إذ لا تشكل تركيا قوةً عسكريةً هائلةً فحسب، بل هي أيضاً العضو الوحيد في الناتو الذي يضم أغلبية مسلمة.
لقد بات من الواضح تماماً أن الولايات المتحدة تنتهج استراتيجية تقليص النفقات ولكنها في الوقت نفسه تترك فراغاً في السلطة في الشرق الأوسط والبلقان. وإذا كنا على وشك الدخول في عصر التعددية القطبية، فيجب على الناتو تقييم تركيا كشريك مهم يجد مكانه في "اللغز الكبير". وإذا اختارت الولايات المتحدة الاستهتار في قراراتها، فلن تهتم بمكان تركيا في اللغز، لكن هذا النهج الملتوي المتمثل في "العصا بلا جزرة" لا يعمل بالتأكيد لصالح الناتو.