يتفق العلماء والمحللون وخبراء العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي الدولي جميعهم، على أن جائحة كوفيد-19 خلقت إحدى أزمات العالم الأكثر أهمية وتعقيداً منذ الحرب العالمية الثانية، بالرغم من أننا لا نزال في المراحل الأولى من الوباء. وأكثر ما يشغلنا ويشغل العالم في الوقت الحالي هو إدارة قطاع الصحة العامة المتعلق بالمشكلة. ولكن بمجرد تسوية الجانب الصحي للأزمة وزوال الخطر المهدد لحياة البشر، سينتقل التركيز مباشرة على العواقب الاقتصادية والسياسية المترتبة عليها.
قبل اندلاع جائحة كوفيد-19 كان النظام العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية قد بدأ فعلياً بالتلاشي، ومن الطبيعي أن يحفز وباء عالمي بهذا الحجم، تغييراً أكثر شمولاً على هذا الصعيد. وقد دعم عداء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للتعددية والمعايير الدولية تراجع النظام الحالي. كما عجز القادة الأوروبيون عن إظهار التضامن واتباع نهج ثابت للحفاظ على النظام الذي ساهم في استقرارهم وازدهار بلدانهم لعقود. وجاءت جائحة الفيروس المستجد لتعزز الخلاف بين السياسيين الأوروبيين بدلا ًمن تحفيز الشعور بالتضامن والتعاون. كما اهتزت الثقة بشكل كبير بالمؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة العالمية، وعانت هذه الثقة الضعف والتراجع قبل تفشي الكورونا. ومع ذلك، نجد أن الوباء سارع بهذا التراجع وزاد فيه. واليوم تجب معالجة بيئة الشك والذعر العالمي. لأنها إضافة إلى تبادل اللوم وتحميل المسؤوليات تمثل أسوأ استجابة للأزمة الحالية.
تعد الأزمات الهيكلية مثل كوفيد-19، فرصة مثالية للإصلاح الشامل للمؤسسات الدولية والمعايير السياسية والاتفاقيات والتوزيع الاقتصادي التي كانت تعكس موازين القوى في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تغيرت بشكل كبير في العقود السبعة الماضية. لقد أثيرت العديد من الانتقادات العميقة من دول مثل الهند وألمانيا واليابان والبرازيل وتركيا وبعض الدول الإسلامية والإفريقية الأخرى ضد المؤسسات القائمة، خاصة داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ولكن لم تتخذ أية مبادرة إصلاحية جدية لتحديث وإصلاح المؤسسات الدولية الضعيفة أو المعطلة. فيجب أن تُستغل الأزمة الحالية كفرصة لتحسين وتحديث المؤسسات والمعايير المعيبة للحوكمة العالمية بدلاً من تركها لمزيد من الانحلال.
أحد الخيارات هو تهميش تلك المؤسسات وانتظار زوالها الطبيعي لأن إطاحتها قد تتسبب في نتائج عكسية بسبب العديد من التحديات والمشاكل الأكثر تعقيداً والتي تجب معالجتها وسط الفراغ الذي خلفه اختفاء اللاعبين الأساسيين الحاليين. وقد يستغرق إنشاء مؤسسات جديدة وقتاً وجهداً كبيراً، بالرغم من أن نشر معايير جديدة من شأنها أن تساعد في استقرار العالم. لكن من الخطورة بمكان تجاوز المؤسسات والمعايير القائمة تماماً في مثل هذا الوقت الذي يسوده الاضطراب وعدم اليقين.
يسلط العديد من المحللين الضوء على مرحلة الفوضى التي مرت بها الفترة الانتقالية بين الحربين العالميتين عندما يدرسون إمكانية إبطال عمل المؤسسات الدولية القائمة بشكل كامل. ولا أعتقد أن الوضع سيكون كارثياً أو متشائماً لأن الجهات الدولية تعلمت الكثير من أخطاء الماضي. كما أن العالم أصبح الآن أكثر تكاملاً وتعقيداً، وستكون التحديات الناشئة عن الأزمة الحالية أصعب بكثير دون وجود أي شكل من أشكال التنسيق. إن حل المشكلة في بعض البلدان لن يساعدها على الشعور بالأمان والاستقرار إذا لم يتم حل الأزمة في مكان آخر.
وقد تكون الخطوة الأكثر تشدداً هي إنشاء مؤسسات جديدة من الصفر. ولكي ينجح مثل هذا السيناريو، هناك حاجة إلى الإرادة السياسية والموارد الكافية وموافقة الجهات الفاعلة على النظام الجديد. في الوقت الحالي، لا توجد مثل هذه الإرادة السياسية أو الإجماع، كما أن الفاعل المهيمن الرائد الذي سيوجه ويحفز العالم في مثل هذه المهمة الصعبة لا يزال مفقوداً. لكن هذه القوة المهيمنة أو التحالف قد يظهر بعد فترة من الاضطرابات والفوضى، بالرغم من أن "الفوضى" المؤقتة قد تكون مكلفة جدا لجميع الجهات الفاعلة. لذلك، من الخطر في الوقت الحالي تهميش المؤسسات القائمة وتجنب المعايير السياسية السائدة. وإذا لم تستطع القوى الكبرى الحالية التوصل إلى توافق في الآراء بشأن البنية التحتية المؤسسية الجديدة، فقد يؤدي ذلك إلى إنتاج هيئة تشبه عصبة الأمم.
إن أحد البدائل المطروحة لمواجهة التحديات الناشئة هو إصلاح المؤسسات القائمة وفقاً لتوزيع الطاقة العالمي الجديد. ومن الممكن لكل أزمة كبيرة أن تخلق بيئة تؤدي إلى تغيير هيكلي. وقد ينخرط اللاعبون الدوليون في لعبة التغيير بشكل أكثر إبداعاً لإيجاد حلول مستدامة. ويمكنهم على الأقل أن يخففوا من الآثار المدمرة للأزمة. إن بيئات ما بعد الأزمات هي أفضل الأوساط لخلق فرص للتغيير البنّاء. لأن جميع الأطراف بمن فيهم أصحاب المصلحة اختبروا بالفعل التأثير المدمر للمشكلة المعقدة. وقد يرغبون في منع المزيد من الخسائر التي قد تحدث بسبب صعوبات التعاون.
ولن يمتلك أي طرف بمفرده القدرة المادية والشرعية السياسية للتعامل مع مشكلة وباء كورونا. ومن السهولة بمكان إلقاء اللوم في انتشار الوباء على جهات فاعلة معينة. مع أن بعض الإهمال الصيني قد يكون تسبب بالفعل في الانتشار السريع للفيروس في جميع أنحاء العالم، ولكن محاولة معاقبة الصين على تدمير الصحة والاقتصاد والضرر الذي نتج من ذلك، سيعوقها ويمنعها من لعب دور أكثر إيجابية في عملية إعادة الحياة إلى طبيعتها بعد الوباء.
ومن الضروري أيضاً مراعاة الأفكار والانتقادات التي وجهتها سابقاً جهات فاعلة مثل تركيا وألمانيا والهند واليابان والبرازيل من أجل البدء بمنحى الإصلاح. كما يعد خيار الانعزالية من قبل الدول العظمى أحد أكثر السيناريوهات خطورة، لأن هذا الخيار لن يساعدهم على معالجة المشاكل العالمية التي تؤثر عليهم بشكل كبير. وقد يحتاجون عاجلاً أم آجلاً، إلى الانخراط في جهود تحقيق الاستقرار، ولكنهم إذا تركوا النظام القائم ينهار في مواجهة الأزمة الحالية فقد يكون الأمر متأخراً ومكلفاً جدا.