الحزين شخصيته ثقيلة، رزين، حصيف، تجد له جلال ووقار وهيبة، فذوي الأحزان هم أهل الحكمة الذين واجهوا الواقع وعرفوا الحقيقية.
حقاً إن الإنسان كائن غريب، مثل الحيوان بغرائزه؛ ومثل الملائكة بسموه، وأسوء من الشياطين ببطشه. يعيش وهو يصارع الخير والشر في نفسه، ومهما حاول الفرار من هذه الحقيقة، فهو أبدا سيكون بين خيارين؛ إما الخير أو الشر. ولكن ماذا يحصل له لو حَزن؟ بالتأكيد سيميل للخير أكثر؛ فهو سيهدأ، ويغدو حنونا عطوفا؛ فالحزن يرقق الفؤاد، ويلين المشاعر..إنه حلو بعبرته، وحلو أكثر بالرحمة التي ينتزعها من الصدور، بالدفء الذي يوقده بالقلوب، هو ذلك العَذاب العذب. ولكنني أتسائل، هل كلامي هذا صحيح؟
جلست على كرسي طاولة النقاش، وفتحت الكتب لأستحضر المفكرين، ليقولوا لي ما الحزن؟ وما هي طبيعته، فالقراء يريدون أن يعرفون الحكم من أفواه الراحلين.
بغرفة ظلماء، ومصباح بوسط طاولةٍ دائرية، تجلى أمامي الحكماء والعقلاء من سالف الأزمنة، ومختلف البلدان، فقلت لهم «يا أيها الحاضرون المحترمون، نريد بدأ النقاش، عما هو الحزن، فتفضلوا مشكورين». بدأت الكاتبة الأمريكية كيتي جيل قائلةً « الغضب والدموع والحزن هي أسلحة المستسلمين»، بداية متهورة ومندفعة.. ولكن لحسن الحظ أننا سنسمع صوتا بريطاني أكثر كلاسيكية ولباقة، رفع رأسه شكسبير وقال: "إن الحزن الصامت يهمس في القلب حتى يحطمه»، ابتسمت بوجهه إكراما لرقيه، ولكن للأسف قاطعنا نزار قباني حينما أراد اجترار الاضواء لنفسه كالعادة "هل لاحظتم أن الجِراح وحدها هي التي تملك ذاكرة قوية.. وأن الفرح لا ذاكرة له؟ الفرح عصفور من زجاج، يرتفع عن الأرض عشرة أمتار، ثم يقع على الأرض ويتهشم، أما الحزن فهو هذه السنونوة السوداء التي تحمل أولادها وتعشعش على شواطئ العين ومدخل القلب وترفض أن ترحل.»، رد عليه صوت لبناني وهو جبران خليل جبران، معللا سبب التصاقية ذاك الشعور «عندما يكون الشخص سريع الحزن تأكد أن هناك من أتعب قلبه دون رحمة.». أخيرا قالها الأمريكي مارك توين "تنبع الفكاهة من الحزن لا من السعادة". فوددت متابعة النقاش، فسألتهم قائلا «ولكن يا أيها الحضور ما سر حلاوة الحزن؟». للأسف اختفوا... لسبب ما...
الحزنُ حلو لأنه محرقة المشاعر المترسبة؛ هو حال طبيعي، يمتزج فيه الإحباط والخيبة وغيرهم، والحزن يا ناس هو شفائي وعلاجي كما يصفه أطباء النفس، وكما أوضحت في مقالي (الموسيقى الحزينة مفيدة) المنشور في "المسيلة الإخبارية". ولكن الأهدى من كل ضلالات الناس، وتخبطاتهم إزاء هذا الشعور، هو في قول رب العباد، حيث يذكر القرآن الكريم كلمة الحزن بأمر النهي والنفي:
ومن آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنونَ ﴿٤٨ الأنعام﴾
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ﴿٣٤ فاطر﴾
إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴿٤٠ التوبة﴾
ومن هدي النبي الهش البش، السعيد، المبتسم، صلى الله عليه وسلم، أنه قال وهو خير البشر: "ما يصيب المؤمن من نصبٍ، ولا وصبٍ ولا همٍ، ولا حزنٍ ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه".
فلا تحزنوا، وإن حزنتم فهو خير طالما إنه لم يكن مقصوداً لذاته، وحلاوته الحقيقية هي فراقه، وليس بقاءه. فيبدو يا أيها القراء، أنني كنت مخطأً بالبداية، فبعد طاولة النقاش وسماع الآيات، وجدنا أن الحكيم بحق ليس ذاك المطأطئ رأسه، الكئيب الملامح، والمنكسر الخاطر، بل هو من أطاع ربه وابتسم لقدره وأدخل السرور في صدور من حوله، وقال نكتة حتى لو كانت "بايخة"، خيرا من نكدٍ يبثه أو غماً ينشره.