تضمن الحقوق الإسلامية حرية الفكر وحرية التعبير. والعلماء هم من يقومون باستخراج الأحكام الدينية من القرآن الكريم والسنة. قد تكون آراؤهم مختلفة لكن لم يكن أحد من العلماء يرى أن الرأي الآخر خاطئ. فقد أمر الخليفة العباسي هارون الرشيد أن يُعلق كتاب "الموطأ" للإمام مالك على جدار الكعبة وأن يعمل به الجميع إلا أن الإمام مالك نفسه رفض ذلك لأنه مخالف لحرية العلم والفكر. ولم يكن الخلفاء يتدخلون في أنشطة العلماء.
وكان يمكن لأي شخص أن يوضح رأيه بخصوص قرارات وأفعال السلطة السياسية دون أن يستخدم أياً من الطرق غير المشروعة مثل إلقاء الافتراءات أو التمرد على الحاكم. وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم قول كلمة الحق في وجه الحكام. كما يأمر القرآن الكريم بالتشاور في الأمر مع أصحاب التخصص قبل القيام به.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين بويع بالخلافة "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم". كذلك قال الخليفة علي بن أبي طالب عندما علم بأمر من ينتقدونه على الملأ بمسجد الكوفة "لا نقربهم طالما لم يعتدوا". كذلك لم يعاقب الخليفة معاوية بن أبي سفيان من قام بهجائه أمام عينيه.
أمور الآخرة
في العصر الكلاسيكي للدولة العثمانية، لم يتدخل العلماء قط في السياسة لكنهم كانوا ينبهون الحكام إن رأوا أنهم اقترفوا خطأ ما. ومن المعروف أن شيوخ الإسلام كانوا يعبرون عن آرائهم بحرية كبيرة أمام السلاطين حتى أشدهم حدة وصرامة مثل السلطان ياووز سليم (سليم الأول)، وأن السلاطين لم يكونوا يعترضوا على ذلك، بل بالعكس كانوا يرحبون بما يقول لهم العلماء. فعلى سبيل المثال، قام أحد الخطباء بمسجد آيا صوفيا في عهد السلطان سليمان القانوني بانتقاد الحكومة لأنها قصرت في تعقب القراصنة الذين هاجموا سفناً كانت تقل فرساناً مسيحيين من جزيرة مالطة كانوا في طريقهم لزيارة الأماكن المقدسة.
وفي عهد السلطان ياووز سليم رأى شيخ الإسلام "زنبيللي علي أفندي" أثناء توديعه للسلطان قبل خروجه للحرب، مجموعة من الرجال أيديهم مقيدة. وعلم أنهم تجار وسيعاقبون لأنهم لم يلتزموا بالحظر الذي فرضه السلطان على تجارة الحرير مع إيران. توجه شيخ الإسلام على الفور إلى السلطان واعترض على معاقبة التجار قائلاً "لا يمكن اعتبار هؤلاء التجار مخالفين لأمركم، فتعيينكم لمحصل ضرائب لتجارة الحرير يظهر أن تجارة الحرير غير ممنوعة."؛ فقال له السلطان: "إن التحدث في أمور السياسة ليس من مهامكم." فأجابه شيخ الإسلام: "هذا ليس أمراً من أمور السياسة بل من أمور الآخرة، وأنت ستسأل عنه يوم القيامة. وتبيان ذلك من واجباتي كرجل دين." انصرف شيخ الإسلام بعد حديثه مع السلطان الذي فكر في الأمر ثم أمر بالعفو عن التجار.
التسامح
في الفترات التي لم تكن توجد فيها مفاهيم مثل المعارضة السياسية أو الصحافة في الدولة العثمانية، كان الشعراء والفنانون هم من يقوم بعمل الصحافة والمعارضة فكانوا يشيرون إلى الأخطاء والنواقص في الحياة السياسية والاجتماعية بلغة يغلب عليها طابع المزاح. وكانت الحكومة تتقبل ذلك بشيء من التسامح إذ كانت ترى أنه مفيد في جس نبض الشعب من ناحية وتخفيف الاحتقان من ناحية أخرى.
في عام 1812 قال الكاتب الفرنسي كاستيان: "إن الشعب العثماني يمكنه انتقاد الحكومة بأسلوب ساخر. بل إنهم يقلدون أعضاء الحكومة ويسخرون من ملابسهم. ولم يكن أفراد الأمن يتدخلون أو يعترضون عندما يشاهدون الشعب يفعل ذلك."
وفي عام 1823 قال الإنكليزي تشارلز ماكفارلن عندما زار الدولة العثمانية: "إن المداحين هناك يقومون بنفس عمل الصحفيين لدينا (المداح هو شخص كان يقوم بإلقاء الحكايات المسلية المضحكة التي لا تخلو من العبر والحكم، في الأماكن العامة). وكان المسرح الشعبي لديهم (أورتا أويون) كثيراً ما ينتقد الأمور السياسية والمشاكل الاجتماعية بأسلوب ساخر".
وقال الكاتب الفرنسي أوبيجيني في مذكرات السفر التي نشرها عام 1855: "إن الرأي العام في تركيا قوي لدرجة لا يمكن تصورها. فلا يوجد أي شخص يستطيع أن ينجو من نقد الـ"قره كوز". الوزراء والعلماء والدراويش والصيارفة والتجار والأغنياء وأصحاب الحرف جميعهم يتم نقدهم من وراء الستار في مسرح خيال الظل. ولا يسلم أحد من نقد القره كوز بما في ذلك أركان الدولة، حتى إن بعض الوزراء كانوا يغيرون هيئتهم ويتنكرون في زي مختلف ويذهبون لمشاهدة القره كوز. وكانوا يتفاجؤون بما يسمعونه من حقائق مرة وانتقادات لاذعة (القره كوز نوع من أنواع مسرح العرائس، يتم تحريكها من خلف ستار يُسلط عليه الضوء. ويرجع تاريخه إلى آلاف السنين)".
الأديب الفرنسي جيرارد دو نيرفال الذي زار إسطنبول في عهد السلطان عبد المجيد يقول: "كان القره كوز يمثل جبهة المعارضة. وكان يظهر إما بصورة برجوازي ساخر أو رجل الشعب الذي ينتقد رجال الدولة بهدوء. يتسم دائماً بالصراحة والوضوح. وعندما صدر قانون منع الخروج إلى الشارع ليلاً بدون مصباح، ظهر القره كوز في إحدى مسرحياته وهو يحمل مصباحاً بدون شمعة. وكان يقصد نقد القانون الذي لا يضم مادة تنص على أن يكون في المصباح شمعة. ألقت الشرطة القبض عليه ثم ترك لأنه كان محقاً. ثم ظهر بعد ذلك في إحدى المسرحيات ممسكاً بمصباح به شمعة لا تضيء لأن القانون لم يضع أيضاً مادة تنص على أن تكون الشمعة سليمة يمكن الإضاءة بها".
أقلام حادة
كان الشعراء ينتقدون رجال الدولة بطريقة ساخرة في أشعار الهجاء التي كانوا يكتبونها، وكانوا يتطرقون إلى المشاكل الموجودة بالمجتمع. وهكذا ظهر أدب الهجاء. وكان الشاعر "نافي" الذي عاش في القرن السابع عشر من أساتذة هذا النوع من الأدب. كذلك كان شعراء الحداثة في نهاية عصر الدولة العثمانية أمثال نامق كمال وضياء باشا يمثلون المعارضة بأقلامهم الحادة وأسلوبهم اللاذع. وكانوا يعبرون عن أحاسيس الشعب وكان رجال الدولة يتقبلون ذلك الهجاء والنقد بتسامح حتى إن لم يعجبهم لأن إظهار رد فعل قاس تجاه النقد المحق يعد نوعاً من قلة الأدب.
كان الدستور العثماني المكتوب عام 1876 ينص على حرية الصحافة في حدود القانون. حتى في عهد السلطان عبد الحميد الذي اشتهر بالتضييق على الصحافة لم تكن الدولة تتدخل في المقالات والكتابات السياسية طالما لم تتضمن أي شيء مخالف للدين والأخلاق أو يدعو للتمرد على الدولة.
وكانت الكتب الدينية بصفة خاصة تتم مراجعتها وتدقيقها من قبل "هيئة المعارف" التي تضم مجموعة من أشهر علماء تلك الفترة. وكانت تلك الهيئة تمنح رخصة النشر للكتب التي لا تحوي مغالطات علمية. وفي عام 1908 تم إلغاء الرقابة الحكومية على الصحف والمطبوعات واعتبر البعض ذلك التاريخ عيداً للصحافة؛ لكن حالة من الفوضى سيطرت على الحياة الثقافية وتدنى مستوى المطبوعات.