في الوقت الذي شهدت فيه تركيا واليونان خلافات كبيرة، يمكن اعتبار اجتماع تسيبراس مع أردوغان خطوة لبناء الثقة.
قام رئيس الوزراء اليوناني "أليكسيس تسيبراس" بزيارة رسمية إلى تركيا استغرقت يومين. من حيث محتواها، لم يكن على جدول أعمال هذه الزيارة أية بنود هامة. إذ لم يوقع الزعيمان على أي اتفاق جدير بالاهتمام، ولم يتم التوصل إلى إجماع حول أي قضايا مثيرة للجدل كانت قد أشعلت التوترات بين الجارتين. إنما يمكن اعتبار زيارة "تسيبراس" خطوة لبناء الثقة في وقت يعيش فيه البلدان خلافات كبيرة، وبالتالي كان من المهم بالنسبة لرئيس الوزراء اليوناني أن يغتنم الفرصة ويُبقي قنوات الحوار مفتوحة مع الرئيس رجب طيب أردوغان.
وقد قوبلت خطوة "تسيبراس" باهتمام فريد من جانب السلطات التركية. حيث أصبح تسيبراس أول رئيس وزراء يوناني يزور معهد "هالكي"، الذي يقع في "هيبيلي ادا" على جزر الأميرات. المعهد الذي كان فيما مضى مركز تدريب أساسي للمسيحيين الأرثوذكس، والذي تم إغلاقه في عام 1971 بموجب القانون الذي وضع التدريب الديني والعسكري تحت سيطرة الدولة. ويعتبر موقع معهد "هالكي" أحد القضايا الرئيسية المثيرة للجدل بين البلدين. يمكن اعتبار قرار السلطات التركية السماح لتسيبراس بزيارة المدرسة الدينية، بادرة تصالحية ضرورية في العلاقات بين البلدين. كما تتوقع السلطات التركية من السلطات اليونانية إظهار بادرة مماثلة من خلال تحسين أوضاع الأقلية المسلمة في "تراقيا" الغربية. وذكر الرئيس أردوغان أنه يمكن إعادة فتح معهد "هالكي" الديني إذا قامت السلطات اليونانية بتحسين أوضاع الأقليات المسلمة في "تراقيا".
من المحتمل أن تسلط زيارة "تسيبراس" للمعهد، الضوء على العلاقات الدبلوماسية الحالية بين البلدين. إذ إنه من الضروري جداً تحسين الثقة بين قادة البلدين في هذه المرحلة الحرجة. لأن هذه الثقة هي في الواقع حجر زاوية في المباحثات المستقبلية بينهما، بشأن قضايا أكثر إثارة للجدل، بما في ذلك التوترات العسكرية في بحر إيجه. كذلك جدل حول مناطق استكشاف الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط، وتوترات متعلقة بفشل مفاوضات السلام القبرصية في يوليو 2017، وقرار المحاكم اليونانية بمنح اللجوء لثمانية مسؤولين أتراك لعبوا دوراً أساسياً في محاولة الانقلاب الفاشلة في يونيو 2015.
التوترات الحالية بين تركيا واليونان:
لقد أكد الرئيس أردوغان بشدة في خطابه خلال المؤتمر الصحفي، على توقعات تركيا من السلطات اليونانية عدم جعل اليونان ملاذاً آمناً لجماعة غولن الإرهابية، أو تنظيمات "ب كا كا" أو "ي ب ك" الإرهابية.
وبدوره أجاب "تسيبراس" على طلب أردوغان حول الإرهابيين الذين طلبوا اللجوء إلى اليونان، بأن المحاكم اليونانية المختصة، مسؤولة عن مثل هذه القرارات. وكانت النتيجة الأكثر أهمية للاجتماع هي البيان الذي شدد على أن تركيا واليونان اتفقتا على خفض التوترات في بحر إيجه واتخاذ خطوات لبناء الثقة. كما توصل الزعيمان إلى توافق في الآراء على أن أفضل طريقة للتعامل مع المشاكل بين البلدين هي تحسين الاتصالات الدبلوماسية. ومع ذلك، لا تزال هناك عوائق كبيرة في تحسين العلاقات بين البلدين.
تعتبر التوترات المتزايدة في شرق البحر المتوسط بسبب المنافسة على استكشاف واستخراج الموارد الهيدروكربونية مسألة حساسة. حيث تتداخل مناطق تركيا الاقتصادية الخالصة مع المناطق الاقتصادية الخالصة التي أعلنها القبارصة اليونانيون. وترى تركيا أن الموارد الهيدروكربونية في جميع أنحاء قبرص تخص كلا الشعبين في الجزيرة ولا يمكن استكشافها دون موافقة القبارصة الأتراك. وكانت البحرية التركية قد حذرت شركة "إكسون موبيل" وغيرها من شركات الطاقة، من التنقيب عن النفط في أنحاء قبرص.
كما تعتبر السلطات التركية "منتدى غاز منطقة شرق المتوسط" جزءاً من خطة جيوسياسية لتطويق البلد. حيث قام وزراء الطاقة في سبع دول في شرق البحر المتوسط بتشكيل ما يسمى بـ"منتدى غاز شرق المتوسط" وهم: مصر وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية. وتم اعتماد مقره في القاهرة.
وكما هو ملاحظ فإن هذا المنتدى قد استبعد تركيا بوضوح، وهي التي تعد واحدة من أهم اللاعبين في المنطقة. وينظر إلى جهود محاولة حظر تركيا من شرق البحر المتوسط كجزء من الخطط الجيوسياسية لعزل تركيا وتطويقها.
تقوم سفينة الأبحاث التركية "خير الدين بربروس باشا"، بالاستكشاف عن الثروات في شرق البحر المتوسط. وكذلك بدأت أول سفينة تنقيب "الفاتح" أعمالها في المنطقة. يمكن أن تؤدي الاختلافات في مناطق الحفر والمناطق الاقتصادية الخالصة، إلى خلق توترات بين الأطراف الفاعلة في المنطقة. ومن المؤكد أن مشاريع الطاقة ستكون أكثر جدوى وفعالية إذا تم تضمين تركيا أيضا في لعبة الطاقة في شرق البحر المتوسط. يجب أن تعمل موارد الطاقة في شرق البحر المتوسط على تقريب وتجميع الدول حول المكاسب المتبادلة، بدلاً من تقسيمها وتجزئتها أكثر. يمكن للتنسيق بين السلطات التركية واليونانية في شرق البحر المتوسط أن يلعب دوراً هاماً في تحقيق تعاون أفضل للاعبين في المنطقة.
إن الطريقة الأكثر جدوى لتفعيل موارد الطاقة في المنطقة هي تقليل التوترات وتشجيع المشاريع المشتركة، والعمل على زيادة التنسيق والتعاون. وقد تكون شركات الطاقة على استعداد للقيام بمزيد من الاستثمارات في المنطقة في حال توصلت الجهات الفاعلة السياسية إلى تفاهم مشترك بدلاً من المشاركة في المنافسة الخبيثة.
لقد جرت زيارة "تسيبراس" لتركيا في لحظة حرجة بالفعل، حيث يمكن أن يؤدي مسار العلاقات الثنائية بين البلدين إما إلى خلق توترات جديدة، أو خلق فرص اقتصادية جديدة، ليس فقط بالنسبة للبلدين، ولكن أيضا لجميع اللاعبين في المنطقة. كما قد يساعد تحسين التعاون الاقتصادي بين الجارتين على تخفيف الصعوبات المالية الحالية التي يعانيان منها.