في 19 ديسمبر 2018، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالتغريد عبر حسابه الرسمي على تويتر، عن قراره بسحب القوات الأمريكية من سوريا. وجاءت تغريدة ترامب بعد اتصاله الهاتفي بالرئيس رجب طيب أردوغان.
أدى قرار الانسحاب إلى حدوث زلزال في البنتاغون، خاصة في القيادة المركزية الأمريكية. وكان ترامب قد بدأ يتحدث عن نواياه في الحد من الوجود الأمريكي في سوريا منذ حملته الرئاسية في عام 2016؛ فلم يبد موقفه بشأن سوريا مفاجأة للعديد من المحللين. ومع ذلك، فإن توقيت القرار والأسلوب الذي تم فيه تنفيذه وتعميمه كان مفاجأة كبيرة.
وقد تلقت كلا من أنقرة وموسكو قرار ترامب بشكل إيجابي، لكنه ألقى بظلال مرعبة وكان بمثابة حركة غير متوقعة بالنسبة لميليشيا ي ب ك الإرهابي الفصيل المهيمن في كيان "قسد". ومن المقرر أن يكون انسحاب القوات الأمريكية من سوريا تدريجياً، وستقوم واشنطن بتنسيق الانسحاب مع كل من تركيا والـ ي ب ك. ولا يعني الانسحاب من سوريا بالضرورة، أن الولايات المتحدة ستعيد ضبط سياساتها تجاه الشرق الأوسط بالكامل. لكنه قد يندرج ضمن إعادة تقييم مرحلية، فما يزال لدى ترامب الكثير من الآراء والتحركات التي لا يمكن التكهن بها.
أعلن ترامب النصر على داعش، وتهميش البيرقراطيين الذين كانوا يؤيدون البقاء لفترات أطول في سوريا. كما أشار ترامب إلى استعداد بلاده للعمل مع تركيا في الحرب على التنظيم المتطرف.
هذا يعني تهميش الـ ي ب ك والميليشيات الأخرى في سوريا. وكانت واشنطن قد أصرت من قبل ولفترة طويلة على التحالف مع تلك الجماعة الإرهابية، مما أورث انتقادات حادة وخيبة أمل لسياسة ترامب في أنقرة. وحال صدور قرار انسحاب ترامب، عمدت ميليشيا ي ب ك إلى التعامل فورا مع النظام في دمشق. وأكدت ردة الفعل هذه، انعدام الثقة في التحالف القائم بين ب ي ك والحكومة الأمريكية.
ويبدو أن قرار ترامب في سوريا له انعكاسات أوسع فيما يتعلق برؤيته الشاملة للسياسة الخارجية المتعلقة بالمنطقة. إذ أكد بهذا القرار أنه لا يؤيد العمل مع الكيانات الانفصالية والجماعات الضعيفة الأخرى للحصول على التوازن الملائم بين الولايات المتحدة والمنافسين الإقليميين لها. بل أراد ترامب بدلاً من ذلك تعزيز ثقة الحلفاء بالولايات المتحدة، والعمل معهم بشكل أكثر انسجاما، خصوصاً إذا كان هؤلاء الحلفاء قادرون على توفير الموارد والقدرات اللازمة. وبالفعل فقد أظهرت تركيا قدراتها جلية في الميدان من خلال عملياتها العسكرية الناجحة ضد داعش وتنظيم بي كا كا الإرهابي.
من ناحية أخرى، فإن اتفاق إدلب التي حالت دون وقوع كارثة إنسانية في شمال سوريا، أظهرت مجددا المهارات الدبلوماسية لتركيا فيما يتعلق باستقرار سوريا. ويمكننا القول إن إدارة ترامب قد تمكنت مع التحرك الأخير، من تجنب حدوث أزمة دبلوماسية مع أنقرة. إذ كانت واشنطن قد دفعت مؤخراً إلى مزيد من العمل المشترك والدعم العسكري لتنظيم "ي ب ك" الإرهابي، وكادت بذلك أن تعرض العلاقات بينها وبين تركيا للخطر. واليوم لا شك أن جهود التنسيق بين تركيا والولايات المتحدة حول سوريا ستشكل الخطوة الأولى نحو بناء الثقة بين الحليفين اللذين انحسرت علاقتهما وتآكل جزء كبير منها في السنوات الخمس الأخيرة.
فشل ترامب في إقناع البيرقراطيين بإستراتيجيته للخروج من سوريا، لكن يبدو أن الشعب الأمريكي راضٍ عن مثل هذا القرار. لم يكن ترامب يرغب في تغيير سياسة بلاده تجاه سوريا فحسب، بل أراد أيضًا التخلص من البيرقراطيين الذين ما زالوا يعملون برؤية الرئيس السابق باراك أوباما حول المنطقة. لم يكن لدى البيرقراطيين إبان عهد أوباما إستراتيجيةً للخروج من سوريا أو العراق أو أفغانستان. أشار ترامب إلى خروج الولايات المتحدة من سوريا بإعلان نفسه وبلاده كقوة منتصرة وليس كقوة مهزومة في حديثه عن سوريا. وكان ترامب الذي لم يؤمن قط بصدق ولا بإخلاص الكفاح ضد داعش أو بعض المنظمات الإرهابية الأخرى، قد نوه بوضوح خلال حملته الانتخابية، بأن داعش هو ذريعة أنشأتها الولايات المتحدة الأمريكية لإيجاد مسوغات للتواجد في تلك المنطقة من العالم. يبدو أن التغييرات الهامة في الوجود الأمريكي في أفغانستان على المحك.
حول العواقب المحتملة لقرار الانسحاب:
وفق آراء معظم المحللين الذين قاموا بتقييم نتائج قرار ترامب بالانسحاب من سوريا، فسيكون لهذا القرار عواقب وخيمة على مسار الحرب الأهلية السورية، التي استمرت لأكثر من سبع سنوات. وسيتعين على جميع الجهات المؤثرة في النزاعات إعادة ضبط سياساتها وفقًا للحقائق الجديدة على الأرض. وإذا ما بدأت الولايات المتحدة بتطبيق إستراتيجية خروج موثوقة، وحقق ترامب هدفه، فقد يكون لهذا الانسحاب بعض النتائج غير المتوقعة على سوريا وجيرانها.
النتيجة الأولى لقرار الولايات المتحدة هي موت فكرة تغيير النظام من خلال التدخلات الخارجية في سوريا وربما في أماكن أخرى. كانت سياسة تغيير النظام عبر التدخلات الأجنبية هي الشاغل الرئيسي لروسيا، التي كانت تتحدث عن عدوانية التدخل الليبرالي في التسعينيات. وسينظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى قرار ترامب كنصر مؤزر له في سوريا. وقد يضطر نظام بشار الأسد إلى إجراء بعض الإصلاحات الهامة أو قد يكون مطالباً بإجراء انتخابات، لكن هذا سيكون تحت إطار السيادة السورية. وبالطبع ستتحمل موسكو مزيداً من المسؤولية في دفع الأسد إلى الإصلاحات من أجل إنقاذ صورتها ومصداقيتها في آن معاً. أما النتيجة الثانية فستكون انخفاض دور الجهات الفاعلة غير الحكومية والمقاتلين بالوكالة في هذه الأنواع من الصراعات المعقدة. كأن تفقد الفصائل أو المنظمات المسلحة غير الحكومية، والتي حشرت في النزاع من قبل جهات خارجية، نفوذها تدريجيا.
في حين سيكون فقط للجهات الفاعلة المحلية والدول المعنية بالصراع، دور في مستقبل سوريا وستشكل تلك القوى خريطة التسوية السياسية.
وخطوة الانسحاب الأمريكي تلك سوف تسرع بلا شك من عملية التسوية السياسية في سوريا. لكن هذه التسوية قد لا تكون بالشكل الأمثل، أو قد لا تلبي توقعات معارضي نظام الأسد، لكن هذه الحلول المحدودة قد توفر المزيد من الوقت لكي يقوم النظام بإجراء إصلاحات. إذا لم يعالج النظام المصادر الأساسية للحرب الأهلية الدموية التي دمرت سوريا ولم يقم بإصلاحات حقيقية، فإن هذا لن يشكل سوى بذور لصراعات مستقبلية. وتقع على عاتق روسيا الآن مسؤولية دفع النظام إلى تسوية معقولة، وتتحمل تركيا وأوروبا مسؤولية إعداد المعارضة المعتدلة للتوصل إلى تسوية سياسية.
قد تلعب موسكو دوراً أكثر إيجابية إذا تمكنت من إضفاء الطابع المؤسساتي على دورها كصانع للسلام. وسيكون النموذج الروسي مختلفًا تمامًا عما هو عليه الآن وبديلًا عن التدخل الليبرالي، بل قد تتمكن روسيا من تفهم المخاوف الرئيسية لجماعات المعارضة المعتدلة والتعامل معها بشكل بناء. وستقوم كلا من تركيا وإيران بلعب دوريهما كل على حدة إما بتعزيز الجهود الروسية وإما بتقويضها. ولهذا فإن إقناع كل الفاعلين وإشراكهم أكثر في عملية التسوية سوف يخدم مصالح روسيا على المدى الطويل.