قاد انهيار العالم ثنائي القطب والاتحاد السوفيتي إلى الافتقار للقيادة العالمية وزيادة الشكوك وانعدام الأمن، فبدأت العديد من الدول الصغيرة والمتوسطة في إعادة هيكلة توجهات سياستها الخارجية.
وأدى اشتداد التنافس العالمي وزيادة التدخل الأحادي وعودة سياسات القوة إلى قيام الدول الصغيرة والمتوسطة بتنويع علاقاتها الخارجية وتشكيل منصات سياسية واقتصادية إقليمية للتغلب على التهديدات والتحديات العالمية.
ونظراً لأن الدول الصغيرة والمتوسطة لم تعد تثق بالقوى العالمية، فقد بدأت في تقليل اعتمادها على اللاعبين الكبار وزيادة استقلاليتها في السياسة الدولية، وأدركت هذه الدول ضرورة تعظيم مصالحها الوطنية من خلال اتباع توجه مترابط ومتكامل وقطاعي للسياسة الخارجية، وتعلمت كيفية التواصل مع الفاعلين الدوليين الآخرين من خلال التخلي عن قراءتها التقليدية التي تُقسّم العالم إلى "أبيض وأسود" أو تلك التي تنظر للآخر من زاوية "معنا" أو "ضدنا".
ونتيجة لكل هذه التطورات في السياسة الدولية، شهد العالم صعود الإقليمية على مدى العقود العديدة الماضية.
وكرد فعل على التركيز النشط لعمليات الأقلمة، بدأت الدول الصغيرة والمتوسطة بتنويع سياساتها الخارجية، من خلال اتباع سياسة خارجية متعددة الأطراف، تتمثل بتنويع الشركاء في التعاون وتنويع محتوى مجال سياستها الخارجية.
وبدأت الدول ذات الهويات المختلفة في استخدام هوياتها المتعددة كأدوات لعلاقاتها الخارجية المتنوعة، ما أدى لصعود الإقليمية من خلال تطبيع علاقات الدول الصغيرة مع دول المنطقة الأخرى.
صعود تركيا
تركيا هي إحدى الدول النموذجية التي تنفذ سياسات داخلية وخارجية ناجحة بسبب صعود الإقليمية، فقد عززت البلاد بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، نظامها السياسي وزادت من اعتمادها على نفسها ونوَّعت قطاعات الإنتاج الاقتصادي فيها، كما وسّعت قدرتها على مكافحة تهديدات الأمن القومي واستجابتها لتلبية احتياجات شعبها.
وتحاول تركيا تنويع علاقاتها الخارجية وتقليل اعتمادها على القوى العالمية وزيادة استقلاليتها في السياسة الدولية، من خلال هويّاتها المختلفة التي تتطلب التنويع في سياستها الخارجية، فمن ناحية تتطلب هوية تركيا الغربية الدخول في تحالفات سياسية وعسكرية مع الدول الغربية. لذلك، وبصفتها عضواً في حلف الناتو وجزءاً من الاتحاد الأوروبي على مستوى الاتحاد الجمركي، تعد تركيا جزءاً من الهندسة الأمنية الغربية والتكامل الاقتصادي في أوروبا.
ومن ناحية أخرى، أعادت تركيا هيكلة سياستها الخارجية ونوّعت علاقاتها الخارجية، عن طريق تطوير علاقاتها مع الدول الإسلامية في جميع أنحاء العالم بفضل هويتها الإسلامية. وبالمثل، فقد حسّنت علاقاتها مع العالم التركي باستخدام التقارب الثقافي. ونظراً لموقعها الجغرافي، فقد طورت علاقاتها مع دول الشرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسط والقوقاز ودول البلقان.
وتشير أحدث عملية تطبيع في الشرق الأوسط إلى صعود الإقليمية بسبب سياسات التنويع لدول المنطقة، فالتطورات الإقليمية والعالمية مثل حركات التمرد، والثورات العربية التي اندلعت عام 2011، وإنشاء "تحالف العالم" في المنطقة تحت رعاية الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب، ووصول خليفته جو بايدن إلى السلطة في الولايات المتحدة، ووباء كوفيد 19، غيّرت كلياً ميزان القوى الإقليمي وقادت إلى تعديل الأوراق، ومثل دول الشرق الأوسط الأخرى، غيرت تركيا أيضاً سياستها الإقليمية وأعادت هيكلة علاقاتها مع جميع دول المنطقة.
وبالإضافة إلى ذلك، حسّنت تركيا علاقاتها مع المناطق النائية من العالم، مثل شرق آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأعلنت أنقرة ونفذت إقامة علاقات مختلفة ومتكاملة مع هذه المناطق النائية. وعلى سبيل المثال، أعلنت تركيا مبادرة آسيا الجديدة عام 2019 لتحسين علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع دول آسيا عموماً ودول شرق آسيا على وجه الخصوص. وفي نهاية المطاف، زادت حصة آسيا في إجمالي حجم التجارة التركية من 22% إلى 35% في العقدين الماضيين.
وبشكل عام، عملت تركيا على تنويع علاقاتها ليس لإيجاد بدائل لعضويتها في المنصات الغربية، ولكن لتعزيز مكانتها في العالم التي من شأنها تعظيم مصالحها الوطنية، ويعلم الجميع أن تركيا ليست دولة أوروبية نموذجية، بل لها هويات متعددة، وتتطلب كل هوية على حدة، تحسين علاقات أنقرة مع مناطق مختلفة. لذلك، لا يمكن أن تكتفي تركيا بالتعاون مع الغرب فقط.